تقوم فلسفة الانتخابات على إفساح المجال أمام المواطن ليدلي بصوته ويساهم في صناعة المشهد الوطني، ويقول رأيه فيمن كان يقوده، ويحذر من سيقوده، بأنك تحت الملاحظة والنقد، فاهتمام الناس بالانتخابات هو من باب حسن الظن بها واعتبارها الأمل الذي سيخرج عنق أحلامه وطموحاته من عنق الزجاجة التي أحكمت حلقاتها، وأنها البوصلة التي ستعيد القطار التائه إلى الصراط المستقيم.
في واقعنا الفلسطيني، ما من حديثٍ يدور بين طرفين، أو مبادرة تولد في الساحة، إلا وتتقدمها الدعوة لإجراء الانتخابات، باعتبارها أداة مهمة لتجديد شرعية الأشخاص والأفكار وأساليب ادارة النظام والتنظيم والمؤسسة والأسرة.
حسنًا، من حيث المبدأ لا خلاف على ذلك، لكن جمال المبدأ لا يكفي طالما أن النوايا غير مكتملة الأركان، فثمة أسئلة تطرحها شريحة عريضة من المجتمع، هل الانتخابات وسيلة ليقيس كل حزب حجمه وتأثيره الجماهيري، أم غاية ليلغي النظامُ المعارضةَ بطريقة ناعمة؟ وهل الانتخابات تفرز الأقوى أم الأفضل؟ هل ستجري وفق رؤية جماعية مشتركة أم وفق رؤية فردية حزبية؟ هل ستكون نزيهة وشفافة؟ هل سيعترف الجميع بالمولود الجديد مهما كان لونه؟ ومن يضمن ذلك؟
الأسئلة السابقة منطقية ونابعة من تخوف مستمد من عمق التجربة، والاجابة عنها تقتضي التأمل في الساحة السياسية العربية التي نحن جزء منها، فالأنظمة تنظر للانتخابات على أنها وسيلة لإظهار تخبط وضعف الخصوم، حيث تضع العراقيل أمام تقدمهم، كي تظهرهم بأنهم لا يصلحون لقيادة الدولة، وبذلك يجري التخلص منهم، كما تضخم الأنظمة محاسنها بصورة تجعلها في ذهن المواطن البسيط فريدة من نوعها، وأنه يستحيل أن يقوم الحاكم القادم مقامه الحاكم الحالي، وبالتالي لا داعي لاختيار غيره، وعن الشفافية، فمن البديهيات أن الانتخابات تجري في ظروف يخلقها الحاكم ليحصل على أفضل النتائج، والويل كل الويل لأي مولود يتم ولادته في صناديق الاقتراع لا يحظى برضا الحاكم أو الدول القوية، وهنا تبدأ المناكفات ووضع العراقيل أمام قطار المولود الفائز كي يموت في صباه، والشواهد على ذلك كثيرة في فلسطين وقبلها وبعدها.. وعن فكرة أن الانتخابات تفرز الأقوى أم الأفضل، فهذه مرجعه إلى مساحة الحرية التي يتيحها النظام، فالدولة القائمة على التعددية وتبادل السلطة، تسير فيها الانتخابات على أفضل ما يرام، حيث يمارس المواطن دوره في ظروف سلسة.
إن الانتخابات وكي تكون حلاً مناساً للجميع يجب أن تتوفر لها مقومات نجاح:
قبل الانتخابات: إزالة غيوم الشك من سماء الوطن ونفوس ساكنيه، واثبات حسن النوايا قولاً وفعلاً، وإلغاء الظلم الواقع على غزة، وعدم ملاحقة الآراء المعارضة لنهج السلطة وافساح المجال للجميع كي يقول كلمته بكل حرية، وأن يمارس المرشحون حريتهم في ترويج بضاعتهم.
أثناء الانتخابات: أن تسير وفق ما يتم الاتفاق عليه دون تزوير أو تزييف.
بعد الانتخابات: التسليم بنتائجها والسماح للفائز بممارسة فترة وجوده في مؤسسات السلطة، وإبعاد فكرة الإلغاء.
لكن ومن باب الواقعية لا أظن أن العالم سيدعم انتخابات، قد يساوره الشك ولو قليلا بأنها ستعيد إنتاج حماس والمقاومة، وأختم بما أعتقده بأن الانتخابات في العالم العربي لا تزال تنمو ببطء، وهذا مرده أنها تعاني من سوء تغذية فكرية وسياسية وثقافية واجتماعية ونفسية، لأن الحاكم لا يخلي القصر إلا للقبر، ولا ينزل عن العرش إلا للنعش.