ما من إشكال أو حيرة أو استفهام أو ابتلاء أو غيره من لوازم الحياة يمر به ابن آدم، إلا ومرّ به من سبقه، ويمر به من بعده، ويمكنني القول من ملاحظة ممتدة الأمد ومعاملات واسعة المدى، أن الحل فيها جميعاً للمسلم مردّه لثلاثة أصول ثابتة، هي "المعارف الاضطرارية" لكل مسلم يبتغي أن يخوض الحياة مسلماً، ويعيش حياة مسلمة، واستعصاء الحل فيها سببه الخلل في أحد تلك المعارف أو كلها بدرجات.
وهذه المعارف الاضطرارية هي:
- معرفة دينك.
- معرفة ربك.
- معرفة نفسك.
وأهم مداخل الخلل في طلبها، والآفات التي وجدتها متكررة من الطالبين، هي ستة على الترتيب:
1. تلوث مصدر استقاء تلك المعارف بالمستوردات المُعرَّبة والمُؤَسْلَمة:
يفوتنا في إقبالنا المتحمس على مختلف العلوم التنموية والإنسانية المستوردة من الثقافات الأجنبية، أنها ليست عربية الطابع والروح وإن ترجمت للعربية، بل ليست مسلمة المنشأ والمقاصد وإن رُقّعت باصطلاحات "مشابهة" إسلامياً.
يفوتنا في إقبالنا المتحمس على مختلف العلوم التنموية والإنسانية المستوردة من الثقافات الأجنبية، أنها ليست عربية الطابع والروح ولا مسلمة المنشأ والمقاصد
وهكذا يُقبل المسلم المتعلم على معرفة الله من تصورات فلسفية بشرية تناقش "فكرة الإله"، وغالبها إما أنه مبني على أساس من الكفر بالله أصلاً، أو على نفسيّة ندّية تجعل مقام الألوهية "خاضعاً" لتفلسف العقل البشري بإطلاق تام، أو على الشِّرك بالله في أحسن الأحوال، ويفوت المسلم أنه ليس للتوحيد فلسفة إلا التوحيد، فيوم يُقبل على الاشتغال بفهم التوحيد أخيراً يدخل عليه "بنفسية" من تَشرَّب نبرات ونفسيات الشرك أو الكفر أو الندّية لا شعورياً، وبذلك يمكن فهم الخليط العجيب والمنتشر في عصر الإسلام الحداثي، لنفسية وعقلية مُسَلِّمٍ بالله لا يُسْلِمُ لله، ومُتَسَمٍّ باسم العبد بلسانه، دون فقه عقلي أو قلبي لأولى قواعد العبودية وحدودها في حقه، أو حقائق الألوهية وآدابها في حق الله.
ومن مظاهر التلوث كذلك أن يُقبل المسلم على فهم "الدين" من خرائط ذهنية أو قوائم تجميعية لأركان الوضوء والصلاة...إلخ، ولعله لا إشكال في مثل ذلك باعتبارها "أدوات" تكميلية لاحقة، وليس "أصول" و"مناهج" البناء في أساسه؛ إذ لا تقوم المواد التنموية المستوردة على مخاطبة المسلم مخصوصاً، بل على مخاطبة "الإنسان" عموماً، وبالتالي فمنهجها قائم على معاملة الدين باعتباره "جانباً" من جوانب الحياة المتعددة جداً للإنسان، وبقدر تعدد جوانب الحياة يكون على المدى تعدد غايات الحياة، وتعدد آلهتها الصغيرة (المال، والزواج، والمهنة، والذريّة، والهوى، والمزاج) حول الإله الأكبر، وهكذا يتمدد التوحيد تلقائياً في شعور المسلم المتشرِّب لتلك الأجواء غير المسلمة في جذورها، ليسع مختلف صور الشرك بانسجام ووئام، فلا يعود بينه وبين غير المسلم فارق في تصور الحياة، أو معاملتها، اللهم إلا في بعض "الشعائر" الدينية!
لا تقوم المواد التنموية المستوردة على مخاطبة المسلم مخصوصاً، بل على مخاطبة "الإنسان" عموماً، وبالتالي فمنهجها قائم على معاملة الدين باعتباره "جانباً" من جوانب الحياة المتعددة جداً للإنسان
2. البدء بمعرفة النفس بمعزل عن معرفة الدين ومعرفة الله:
خاصة في عصر العلوم المستوردة والثقافات المتداخلة بغير انضباط، تجد لمعرفة النفس ألف علم موضوع، وألف تصور مطروح، كلها في كِفة بشرية، والتصور الإلهي في كِفة وحده ، فيبدأ الخطأ بالدوران في الكِفة البشرية بنظرياتها وفلسفاتها ومنهجياتها الجامعة للغث والسمين على السواء، وليس في يد المسلم الدائر أداة قوية أو مرجعية راسخة يميز بها الغث من السمين، أو يعرف كيف الإفادة من السمين دون أن يَغَصَّ به.
ثم إذا أراد أن يشعر بإسلامه في مرحلة ما بعد طول دوران في التصورات البشرية، يروح ينتقي شذرات من الكفة الإلهية، يرشها كالبهارات أو التوابل على ما استقر عنده مسبقاً من الكفة البشرية، ليُؤسلم معرفته فيريح بذلك الصوت "الإسلامي" فيه.
ولا ينتبه –أو يتجاهل- أنه يحاكم الإلهي للبشري، فمعادلته خاسرة خائبة، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً! ولا ينتبه من باب أولى أن الكِفتين لم تكونا متعادلتين أو متساويتين من البداية، ليمكن الجمع السطحي بينهما في النهاية، بل لا بد أن تسبق إحداهما الأخرى، وتحاكَمَ إحداهما للأخرى.
ودفع الآفتين أعلاه يكمن في أن يُقبل المسلم على تعلم الإسلام من موارد الإسلام المسلمة وحدها، ويدع عنه الانجراف الذاهل وراء ألاعيب الثقافة والانفتاح ومعرفة العالم، حتى يفرغ أولاً مما يقيم إسلامه في نفسه، ويرسخ مرجعيته التي تمكنه من الموازنة والحكم على أساسها.
3. الانجراف وراء شهوة العلم، في المعارف الدينية والشرعية خاصة:
فللعلم والمعرفة شهوة أكيدة لا جدال فيها، خاصة في عصر عدادات المتابعين ونجوم الجماهيرية، والانبهار السريع بكل قادر على قراءة صفحة كاملة في اليوم ! فتأتي الصبغة "الشرعية" لتزين شهوة العلم والمعرفة أكثر في النفوس الساعية للالتزام بالإسلام، وتخدعهم عن حقيقة أنها تظل شهوة وهوى من أهواء النفس، والانجرار وراءها بغير انضباط ومنهجية آفة ينبغي علاجها.ودفع هذه الآفة يكون بالالتزام الدقيق والصادق بأولى الأولويات في التعلم، مهما بدا "بسيطاً" أو "قليلاً" أو "بديهياً"، أو باختصار: "غير بطولي" كفاية في قائمة الإنجاز (وهذا الشعور بحد ذاته دليل على آفة نفسية وفكرية تتطلب تزكية).
في الجزء التالي نستكمل الآفات الثلاثة الباقية بعون الله.