أهم مداخل الخلل في طلب المسلم لعلوم الإسلام (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » أهم مداخل الخلل في طلب المسلم لعلوم الإسلام (2-2)
books17

ما من إشكال أو حيرة أو استفهام أو ابتلاء أو غيره من لوازم الحياة يمرّ به ابن آدم، إلا ومرّ به من سبقه، ويمر به من بعده، ويمكنني القول من ملاحظة ممتدة الأمد ومعاملات واسعة المدى، أن الحل فيها جميعاً للمسلم مرده لثلاثة أصول ثابتة، هي "المعارف الاضطرارية" لكل مسلم يبتغي أن يخوض الحياة مسلماً، ويعيش حياة مسلمة، واستعصاء الحل فيها سببه الخلل في أحد تلك المعارف أو كلها بدرجات.

وهذه المعارف الاضطرارية هي:
- معرفة دينك.
- معرفة ربك.
- معرفة نفسك.

وأهم مداخل الخلل في طلبها، والآفات التي وجدتها متكررة من الطالبين، هي ستة على الترتيب، ذكرنا منها في الجزء الأول ثلاثة، ونستكمل الثلاثة الباقيات فيما يلي:

4. عدم شخصنة المتعلم لما يتعلمه من تلك المعارف:

أي أن يجعل المتعلم مما يتعلم مسألة شخصية تخصّه وتعنيه، ولا يكون شأن التعلم عنده التزاماً مفروضاً من الخارج، يفرغ منه والسلام، ليضيفه لقوائم المنجزات الذهبية، فيريح الصوت "الإسلامي" فيه، ويخدع ضميره بما يجمع من كراريس ودفاتر "توحي" بجهود مبذولة، دون أن يشعر أنه مَعْنِيّ بما جمع على الحقيقة، إذ ما نفع الجسد الحسن البنية والهيئة، إذا خلا من روح تحيي تلك البنية والهيئة؟

يخدع المتعلم ضميره بما يجمع من كراريس ودفاتر "توحي" بجهود مبذول، دون أن يشعر أنه مَعْنِيّ بما جمع على الحقيقة

والحل أن يُقبل المسلم على تعلم العلوم بنفسية "أرحنا بها"، أي بوصفه كائناً حياً يطلب لنفسه علماً حيّاً ليحيا به ، فيتعلم باتئاد وأناة، ويتفكر ويتدبر، ويُعمل خواطره بصدق في كل خطوة على الطريق، ليوازن أين هو مما يتعلم، وأين ما يتعلم مما هو فيه، وأما من يقبل عليها بنفسية "أرحنا منها"، فستجده مستعجلاً على الانتهاء قبل البدء، والخلاص لا الإخلاص، وهكذا يكوّم دورات مكلفة ومعرفة جامدة على رفوف العقل وأسطر الشهادات، لا هو شعر بحاجته الحقيقية لها، ولا "باضطراره" من باب أولى لتحصيلها لتصح حياته.

وهذه الشخصنة بالتفكر والتدبر، هي مفتاح استنارة أي متعلم بما يتعلم على الحقيقة، والجسر الذي يتوصل به لمعرفة النفس وبنائها، وبدون ذلك الجهد الجاد، تجد العلم يتكدس والمتعلم ينتكس.

5. الاستعجال على الانتهاء قبل البدء:

بسبب عدم جديّة استشعار المسلم لحاجة حقيقية أو "اضطرار" لتلك العلوم، خاصة مع وجود منافسة من شواغل دنيوية يراها "أولى"، وتجعل مثل ذلك الاضطرار ترفاً مبالغاً في أهميته من المتشددين الذين فاتهم أن (الدين يسر)! بسبب كل ذلك لا يجد المتعلم حين يقبل على تعلم علوم الاضطرار ما يدعوه أو يضطره للصبر على الرسوخ فيها، والتأني في التدرج معها، ومن هنا تتولد أعراض السآمة والتململ، والتوجّس من صحة الطريق، والمطالبة بالثمار حتى قبل البذر، والقلق بشأن الفيض على الغير قبل الامتلاء في النفس، والاندفاع للتصدر قبل التثبت ...إلخ.

وقد يكون بعض هذه الأعراض أو كلها صحيحة في سياقات ما أثناء رحلة التعلم، لكن مع متعلم جاد صابر، وهذا النادر في المتعلمين اليوم، وليس الأصل، لذلك فغالب تلك الأعراض منشؤها نفس تعودت الدلال والمزاجية، ومتعلم لا يعي مقاصد تعلمه.

وحل آفتي الاستعجال والتململ أن يعلم كل مسلم أنه مضطر لعلوم صحة الحركة على قدر حركته ، فإما أن يحجّم شواغله على قدر علمه، أو يتعلم على قدر شواغله، وليس من يعيش في الريف أو البادية كمن يعيش في الحضر وفي حضن الإنترنت، فتحديات كليهما وإشكالاته وشواغله بينهما بعد المشرقين.

وأي حل مطروح خلاف هذين الحلين، خاسر على الوجهين:
*علم منقوص + مشاغل مضطربة = حيران هائم

ليس من يعيش في الريف أو البادية كمن يعيش في الحضر وفي حضن الإنترنت، فتحديات كليهما وإشكالاته وشواغله بينهما بعد المشرقين

6. نفسية العزوة:

فتجد الكل يتكلم باسم الكل، والكل يقصّر باسم المجموع، والكل يحتاج الكل؛ ليحفزه على عيش حياته، أو يمنعه من إنهاء حياته! ويندر أن تسمع من أحد رأياً أو تسأله عن رأيه إلا وتجد في جوابه (الناس) تلميحاً أو تصريحاً، فإذا صَعُب على قارئ -مثلاً- مستوى أسلوب أو عمق فكر ما، رمى المادة جانباً على الفور، متحجّجًا: "إن الناس لن تفهم مثل هذا الأسلوب أو الفكر"، بدل أن يعبر مباشرة عن حاله فرداً: "أنا لم أفهم المغزى، أو صَعُب عليّ الأسلوب"، فتنتفي بذلك أي احتمالية لكون الإشكال من جهته، في سطحية اطلّاعه أو ضحالة لغته، أو غير ذلك.

هذا النهج النفسي من الاحتماء بالعزوة والقياس بالكثرة والتستر وراء السائد، يرفع عن الفرد أي ملامة أو دافع للتعامل مع ذاته داخلياً، فالإشكال كله يكمن في شيء أو أحد ما "خارج" الذات، والأعذار دائماً حاضرة بعدد الناس، وقد لا يبدو أن في هذا المثال البسيط بأسًا، لكنك لو وسَّعته ليصير نهج حياة –كما هو بالفعل- لظهر لك مدى البؤس البائس!

وهذا كله نتاج سنوات من ثقافة إسلامية مضطربة، أدت إلى هزال استشعار الفرد لمسؤوليته الشخصية عن نفسه أولاً وآخراً، قبل اشتغاله بحيوات العالم من حوله، فلا تعجب إذا رأيت مدى اشتغال المسلمين بديباجات (معنى الحياة) بكل الألوان العصرية على مختلف المستويات الجماعية، وغفلتهم عن (حياة ذلك المعنى) على كافة النواحي الشخصية.

ختامًا، رأس الحل سيكمن دائماً في التوقف عن إهدار الأعمار في محاولات الترقيع المتأسلم، وإنفاقها عوضاً في محاولات الانضباط المسلم ، وإن العمر يمضي على الحالين، لكن عمراً ترجوه عند الله، خير من عمر تخدع نفسك بأنك "سـترجوه يوماً ما"، وتعلم في قرارة نفسك أنك لن ترجوه على الحقيقة ... ولا يرضيك أن تجده تلقاءك يوم حسابك!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …