يقول الله تعالى، في القرآن العظيم: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [سُورة "الأنعام" – من الآية 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سُورة "النحل" - من الآية 89].
ولقد عبَّر ابن عباس (رضي اللهُ عنهما) عن هذا المعنى من الشمول الذي جاء عليه القرآن الكريم، بالقول: "والله لو سألني أحدكم عن شراك نعله؛ لوجدته في كتاب الله".
على هذا النحو؛ فإننا نؤمن ونقرُّ كمسلمين بأن القرآن الكريم هو كتاب شامل، بالمعنى الموضوعي الجاد، وليس كما يحاول البعض فعله، بأن يحولوا كتاب الله إلى كتابٍ للرياضيات أو العلوم البحتة، أو طرح هذه الشمولية بالصورة التي تسمح أو تساعد أصحاب الهوى والملحدين والمستشرقين، وغيرهم من خصوم هذا الدين، بالحديث عن أن القرآن "كتاب قاصر" وفق مدلولات هذا المفهوم القصير النظر.
فشمولية القرآن الكريم، تأتي من المفاهيم التي تتضمنها آياته، وهي مفاهيم تناولت كافة ما يكن أن يخطر على قلب بشر من أمور، وحوت الإجابات عنها.
ولكن علماء الإسلام، يذكرون حقيقة مهمة للغاية، أنه لا سبيل إلى معرفة المعاني والمفاهيم القرآنية، إلا من خلال الاجتهاد وإمعان العقل والتَّدبُّر في آيات القرآن الكريم ، سواء على مستوى الآية والسُّورة، أو على مستوى مُجْمَل النص القرآني، والنصوص التي تستقر في تصنيف موضوعي بعينه.
ولذلك؛ فإنه ليس بغريب أن نقول بأن القرآن الكريم قد أتى بالأمور الأساسية المتعلقة بالإدارة، بما في ذلك عملية إدارة الموارد.
وهذا الأمر، نجده بشيء غير عسير من التفكُّر والتدبُّر في بعض آيِ الذكر الحكيم، في المستويَيْن اللذَيْن تميَّزَ بهما القرآن الكريم، الجزئيات والكُلِّيَّات.
فعلى مستوى الكُلِّيَّات؛ فإننا نقف أمام مجموعة من الآيات التي تتكلم عن ترشيد الموارد، وهي أول درجة من درجات علوم الاقتصاد في هذا المضمار؛ حيث الاقتصاد أصلاً، هو علم إدارة الموارد، والتي تتميَّز بالندرة.
فيقول تعالى على سبيل المثال: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سُورة "الأعراف" - من الآية 31]، ولو قمنا بتفكيك وتحليل المصطلحات الواردة في هذا القول الكريم؛ سوف نقف على موارد هي الأهم بالنسبة للإنسان، وهي الغذاء والماء، وبتعميم الحديث؛ سوف نجد أن هذا الجزء من الآية الكريمة، يشمل المحاصيل الزراعية والموارد المائية كافة، وهي صُلب الموارد التي عُنِي بها علم الاقتصاد، مع مصادر الطاقة.
ويشمل ذلك أيضًا المورد النقدي؛ حيث الإنسان ينفق على ما يأكل ويشرب، من خلال النقد أو ما نسميه مجازًا بالمال (المال في الاقتصاد يشمل النقد وأمورًا أخرى).
ومن تشديد القرآن الكريم في مجال الترشيد والرشادة في الإنفاق؛ قَرَن اللهُ تعالى التبذير بالكفر والعياذ بالله، كما جاء في القرآن الكريم. يقول سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)} [سُورة "الإسراء"].
والآية الأولى تشمل معانٍ كثيرة بدورها؛ حيث إن مفاهيم إدارة الموارد تنطبق حتى على ما يقوم به الإنسان من أعمال خيرٍ؛ لأن في ماله حقوقًا له ولأهله.
والتعميم في القرآن الكريم قائم، فما ينطبق على مورد نادر؛ ينطبق على كل الموارد النادرة، وبالتالي؛ فإن آيات الترشيد، تشمل حتمًا، مختلف صور الموارد التي تم اكتشافها بعد نزول القرآن الكريم.
وهو نفس المنطق الذي دعا المفسرون إلى القول بأن القرآن الكريم قد أشار إلى أن البشر سوف يبتكرون وسائل نقل خلاف ما كان معلومًا وقت نزول القرآن الكريم، من خلال الشطر الذي يقول فيه المولى عز وجل: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في الآية الثامنة من سُورة "النحل"، بعد أن قال سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}.
ثم نأتي إلى شكلٍ آخر من أشكال إدارة الموارد التي وردت في القرآن الكريم، والتي جاءت في سُورة "يُوسُف"، والتي تضمنها الموقف الذي دار بين ملك مصر في ذلك الحين، وبين قومه، عمَّا رآه في منامه من سبع بقرات سِمان يأكلهن سبع عجاف، وتفسير نبي الله يُوسُف (عليه السلام) له.
يقول تعالى على لسان يُوسُف (عليه السلام): {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}.
فإننا لو تأملنا الآيات التي وضع فيها يُوسُف (عليه السلام) تأويله للرؤيا التي رآها ملك مصر في ذلك الحين؛ فإننا سوف نقف عند مفاهيم شديدة الأهمية في مجال علوم الاقتصاد، في مجال الزراعة وإدارة الموارد الزراعية، بما في ذلك حتى سياسات التقشُّف في أوقات الشِّدَّة، وكيفية الاستعداد لها من الأصل في أوقات الرخاء، وهو مبدأ حتى ينطبق على أية موارد طبيعية أخرى، ونظم إدارتها في أوقات الشدة والرخاء.
لو تأملنا الآيات التي وضع فيها يُوسُف (عليه السلام) تأويله للرؤيا التي رآها ملك مصر في ذلك الحين؛ فإننا سوف نقف عند مفاهيم شديدة الأهمية في مجال علوم الاقتصاد، بما في ذلك حتى سياسات التقشُّف في أوقات الشِّدَّة، وكيفية الاستعداد لها من الأصل في أوقات الرخاء
وذات المعاني نجدها في قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" [سُورة "الأنعام" – الآية 141].
وبطبيعة الحال؛ فإن السُّنَّة النبوية قد احتوت على الكثير جدًّا من النصوص التي تتناول هذه الأمور، مثل ترشيد الموارد المائية ، كما في قول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما مرَّ على سعد بن أبي وقاص (رضي اللهُ عنه)، ووجده يسرف في الماء وهو يتوضأ، فنهاه عن ذلك، وردَّ عليه سعدٌ بالقول: أفي الوضوء سَرَف. حينها قال له الرسول "عليه الصلاة والسلام": "نعم وإنْ كنتَ على نهرٍ جارٍ" [أخرجه الإمام أحمد في المُسْنَد].
وفي الأخير؛ فإن هذا الحديث البسيط، يثبِت صدق قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [سُورة "البقرة" - الآية 109].