نشهد في كل يوم عشرات المواقف السلبية التي يتصرفها عامة الناس سواء في الطريق أو السوق أو العمل أو حتى في المنزل، وربما تقع مشاكل كثيرة في حياتك بسبب مواقف تافهة. لكن إحصاء كل صغيرة وكبيرة أمر لا يطيقه الكبير ولا الصغير، وهو في الكثير من المواقف يشعل شرارة الغضب والشحناء في القلوب، ومن لم يتقن فن التغافل سيخسر الكثير وأولهم عافيته.
فعن علي رضي الله عنه قال:" من لم يتغافل تنغصت عيشته"، وهذا ما يعانيه الإنسان اليوم، يسمع ما يكره، فيفكر فيه ويستمر في التفكير وينغص عيشته، فالذي يقف عند كل كلمة وكل حركة وعلى كل خطأ أو يحاسب على كل صغيرة وكبيرة هو أكثر الناس شقاء وتعاسة.
فما هو التغافل؟ ولماذا ابتعد بعض المسلمين عن هذا الخلق العظيم؟ وهل هناك أمور لا يُسمح باستخدام خلق التغافل بها؟ وكيف تجلى هذا الخلق في حياة السلف الصالح؟
التغافل من أخلاق العظماء
يقول الدكتور زياد مقداد -الأستاذ المشارك في الفقه وأصوله في الجامعة الإسلامية بغزة -: "إن التغافل من أخلاق العظماء التي ينبغي على كل مسلم أن يتصف بها، وهو يعني ببساطة التغاضي عن أخطاء الآخرين سواء التي يرتكبها البعض بحق نفسه أو غيره "، مضيفاً أنه يجب على المسلم إن رأى خطأً خاصة إذا كان من سفاسف الأمور ودناياها أن يتغاضى ولا يحاسب صاحبه، فالإنسان ليس معصوماً من الخطأ.
وأوضح أنه إذا أراد كل شخص أن يتتبع ويصطاد أخطاء الآخرين فلن تستقر الحياة وربما تحدث عداوات، ولذلك على المسلم التجاوز عن أخطاء الآخرين خاصة المقربين منه كالوالدين والزوجة والأولاد والزملاء في العمل والجيران.
وبين أن التغافل يعني التظاهر بالغفلة مع تعمد السهو، والعفو والمغفرة والتسامح والتعالي على الجراح والإعراض عن الجاهلين وجهالاتهم، مشيراً إلى أن الإمام الشافعي يقول: (الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل).
لماذا ابتعد البعض عن التغافل
وحول الأسباب الكامنة وراء ابتعاد الكثير من المسلمين عن هذا الخلق، أكد مقداد على أن من الأمثلة عليها الجهل بطبيعة هذا الخُلُق ونتائجه الإيجابية، والتعاطي المغلوط مع أخطاء الآخرين، بالإضافة إلى حقد بعض الأشخاص وانتشار الكراهية بينهم حتى باتوا يتصيدون الأخطاء لبعضهم، مشدداً على أن الأصل أن تنتشر الألفة والمودة والأخوّة؛ لأنها إذا انتشرت يسهل العفو؛ لأن المُحب يعفو لمن أحب.
وأردف قائلاً: "إنّ ضعف الإيمان يُبعد المسلم عن التغافل؛ لأن التغافل عن أخطاء الآخرين ينم عن قوة الإيمان بالله، والالتزام بتعاليم القرآن، فالله تعالى يقول {وأعرض عن الجاهلين} ومن خالف ذلك فهو ضعيف الإيمان".
التغافل في سيرة الأنبياء والسلف الصالح
ويقول مقداد: "لعل عظمة هذا الخُلق تكمن في كثرة النصوص في كتاب الله أو سنة رسوله أو المواقف التي تجلت في سيرة السلف الصالح والعظماء وفي أفعالهم وتصرفاتهم".
ويستدل مقداد على خلق التغافل بقوله تعالى وهو يتحدث عن أشرف الخلق حامداً فعله }وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض{ [التحريم:3]، منوهاً إلى أن المولى عزوجل يرسل قاعدة تربوية راقية وهي غض الطرف عن بعض الهفوات والأخطاء والبعد عن عدها وإحصائها وهو ما يسمى بأدب التغافل.
وذكر مقداد أن نبي الله يوسف -عليه السلام- ضرب أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول إخوته في حقه، قال تعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77]، فكيف يمكن أن تسمع الكلام المؤذي الجارح دون أن تتغير ملامحك وتتجاهل كأنك لست صاحب الشأن.
وأشار إلى أن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا" (رواه أبو داود)، وهو نوع من التغافل بعدم ذكر الشخص باسمه، بحسب مقداد.
التغافل المحمود والمذموم
وشدد على أن التغافل يكون محموداً إذا كان لا يُغيّر الحقائق ولا يبدد الحقوق ولا يحط من الكرامة ولا يقر مُنكراً ولا ينكر معروفاً ولا يؤصل لباطل ، مضيفاً أن الأمر بالمعروف شُرِع إذا وجد إنسان يشرب الخمر، أو يفطر في شهر رمضان، أو لا يصلي، أو إذا انتهكت حرمات المؤمنين وأعراضهم، وهنا لا يجوز التغافل؛ لأن ذلك يدخل ضمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركه مستوجب للعنة الله، مستشهداً بقوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78].
واسترسل " كما قالت عائشة- رضي الله عنها- ما انتقمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لنفسِه في شيءٍ قطُّ إلا أن تُنْتَهَكَ حُرْمةُ اللهِ، فينتقمَ بها للهِ".
كيف تكون متغافلاً؟
ولفت مقداد إلى أن من أراد أن يتحلى بهذا الخلق العظيم عليه أن يتعرف على حقيقة ما يورثه هذا الخلق من سعادة وطمأنينة وأجر عظيم، مبيناً أنه لا يتمكن من ذلك إلا من فهم حقيقة الشيء وما يترتب عليه، فمثلاً الإنسان يتحمل التعب في عمله؛ لأنه يعرف أنه سيتقاضى أجراً ينفقه على أهل بيته.
وأضاف أنه يجب التخلص من الكراهية والحقد اتجاه الآخرين، فالقلب إذا صفى أحب وسامح وتغافل وأعرض عن تتبع الآخرين.
وشدد مقداد على ضرورة أن يشغل المسلم نفسه بعيوبه وبطاعة الله، "فمن شغلته عيوبه انشغل عن عيوب الناس ، فانظر إلى أخطائك وهذا سيكون سبباً لعدم تصيّدك لأخطاء غيرك"، على حد تعبيره.
التغافل منهج تربوي دعوي اجتماعي
من جهته، يقول الدكتور درداح الشاعر الأخصائي الاجتماعي: "إن التدقيق في تفاصل الحياة اليومية، والنظر إليها بالعين المجهرية، ينغص الحياة بين الناس، فتصبح العِشرة كدرة، والمجالسة مُرّة، فلا بأس من الإعراض عن الأمور البسيطة والتغافل عن السلوكيات الهينة، كي نزرع في بيوتنا وحياتنا فسحة من السعادة".
وأضاف أن التغافل منهجٌ تربوي ودعوي واجتماعي، له أثرٌ طيِّب في النفس، ويُحتاج إليه في كثير من الأحوال والمناسبات، كما أنه مِن مكارِمِ الأخلاق ؛ قال سفيان: "ما زال التغافل من شِيَم الكرام".
وأشار الشاعر إلى أن "التغافل فن من فنون الحياة التي كنت أتمنى أن تعلمه المدارس كمهارة حياتية مفيدة للفرد والأسرة والمجتمع، وهذا الفن لا يتقنه الكثيرون؛ لأنه صعب ويحتاج إلى ضبط النفس وقوة الإيمان، ولذا فهو ليس بمهارة سهلة بل يحتاج إلى تدريب وتطوير".
وأكد الشاعر أن الله منحنا إحدى القوى الإنسانية المهمة، وهي هندسة لملكات العضلات النفسية عند الإنسان، لافتاً إلى أن هذه العضلات إن لم تستطع احتواءها ستؤذيك، "واسألوا من تزوج منذ 40 عاماً، أو أحد التجار الذين خالطوا الكثير من الناس، أو من كان عاملاً في مكان صعب جداً كيف حققوا النجاح، سيكون الرد بتغافلهم عن أخطاء الآخرين".
تغافل يوسف الصديق
وقال الشاعر: "إن من أعظم مواطن التغافل قول يوسف الصديق -عليه السلام- {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100] مع أن الشيطان نزغ إخوته فقط ولم ينزغه هو، لكنها مكارم الأخلاق".
وذكر أن "التغافل ظاهره يمكن أن يبدو غباء أو غفلة، ولكنه في الحقيقة حكمة وصبر وذكاء ؛ لأن اتساع الأذن لكل مسموع واتساع العين لكل مرئي كفيلان في تكدير الصفو وتفريق المجتمع ونصب خيام سوء الظن في القلب، فلا مناص حينئذ من التغافل والتغابي أحياناً لتسير القافلة، ومن أخذ بكل زلة فلن يبقى له في الدنيا زوجة ولا أخ ولا صديق ولا جار".
غياب التغافل والخلافات
وأكد الشاعر على أن غياب مبدأ التغافل في المجتمع ترتب عليه ظهور الكثير من الخلافات والمشكلات التي لو عاودنا فحصها مرةً أخرى؛ لوجدنا أنها مُغرِقةٌ في التفاهة والبساطة".
وأردف قائلاً: "من واقع تجربتي أن التغاضي عن أخطاء الغير يورث راحة البال وطمأنينة النفس لاسيما إذا كان هذا التغاضي ليس ضعفاً ولا عجزاً بل إنه قد يقلب الموازين فيجعل ذلك المسيء صديقاً حميماً".
واسترسل "ليست كل هفوة تحتاج إلى تدخل، وليست كل زلة أيضاً يمكن التغاضي عنها، وعلينا أن ننتبه!! فليس كل سلوك خاطئ يُفضَّل تجاهله، فمواقف التعدّي على الغير أو انتهاك حقوق الله تستلزم التدخل المباشر "الحكيم".
وختم الشاعر حديثه قائلاً:" إن كنت تتغافل عن موقفٍ قد يؤذي تفكيرك طوال اليوم، وربما لأكثر من ذلك سيكون تغافلك عنه أجدى وتجاوزه أفضل، وإنْ لم تكنْ قد تغافلتَ عن ذلك فيما مَضَى؛ فلديكَ فيما بقيَ من عُمُرِكَ فُرصٌ جديدةٌ تستحقُّ الاغتنامَ، واغتنامُها يكونُ بالتَّغَاضِي والتَّغافُلِ وغَضِّ الطَّرفِ".