لعل هذا العنوان قد يشير إلى قضية فكرية، من ترف الرياضات الذهنية التي قد يقوم بها بعض الكُتَّاب في كثير من الأحيان، إلا أنها في واقع الأمر ليست كذلك.
ولتبيان أهميتها، يكفي أن نشير إلى أنها تتصل في جانب من جوانبها، بمستقبل الحِراك الحالي في مختلف ميادين العمل الإسلامي، بمختلف أشكاله، السياسية والتربوية والاجتماعية، وغير ذلك.
فوفق ما تعلمناه في مجال العلوم السياسية والاجتماعية؛ فإن التأصيل هو الأساس الذي تقف عليه الأمور، وبالتالي؛ فهو أصل النجاح أو الفشل، ومفتاح للتحرك في أي اتجاه، حتى ولو كان تحرُّكًا فاشلاً/ ضعيفًا/ في مجال غير مهم.. إلخ.
وهناك عددٌ من الأمور التي دفعت إلى القول بأن هناك ضرورة نوعًا ما لتحديث العقل السياسي الإسلامي، ومن بينها ما ظهر في أداء الإسلاميين، فرادى وجماعات، عندما اندلعت ما تُعرف بثورات الربيع العربي قبل نحو ثماني سنوات، وما تلاها من تطورات.
فهذه المرحلة الماضية، أثبتت أن الإسلاميين على المستوى الفكري، ولاسيما المستويات التي تتحكم في الحِراك، وحتى في شريحة الشباب، لن نقول ليسوا مؤهلين؛ حيث هذا حكم خاطئ ومتعسف، وإنما نقول: إن كبار الحوادث التي جرت، إنما تثبت أنه كان هناك بعض الأمور الخاطئة في هذا الاتجاه، مثل وجود خلل في طرائق فهم المواقف المختلفة، وبالتالي؛ في طرائق التعامل معها.
ويعود ذلك إلى أن هناك بين ظهراني الحركة الإسلامية مَن لا يزال يعيش بعقلية الماضي.
فمدارسنا الفكرية، إما أنها تصدِّر خطابًا ومنهجًا مثاليًّا، يقف عند حدود القيمة، وما يجب أن نؤمن به، بينما هذه بديهيات بالنسبة لأي مسلم صحيح الفهم لدينه، ولكنها مناهج لا تقول لنا: ماذا نفعل في تفاصيل ودقائق المواقف ذات الطابع التطبيقي، أو أنها تعتمد على مناهج وأفكار قديمة، لم تعد تصلح بحال في زمننا المعاصر.
مدارسنا الفكرية، إما أنها تصدِّر خطابًا ومنهجًا مثاليًّا، يقف عند حدود القيمة، وما يجب أن نؤمن به، بينما هذه بديهيات بالنسبة لأي مسلم صحيح الفهم لدينه، ولكنها مناهج لا تقول لنا: ماذا نفعل في تفاصيل ودقائق المواقف ذات الطابع التطبيقي
وهذا في جانب من جوانبه حقيقة يجب أن نعترف معها أن هناك ضرورة لتحديث الخطاب الإسلامي من هذه الزاوية. فحتى مفهوم "العلم" في تفاسير الماضي؛ قاصر في ضوء مستجدات الحاضر.
كذلك في المجال السياسي والاجتماعي. فعلى أبسط تقدير؛ غالب التفاسير الموضوعة لنصوص قرآنية ونبوية، موضوعة في وقت كانت هناك فيه دولة إسلامية جامعة.
وبالتالي؛ لم يكن هناك أي تفكير في وضع فقه لدولة تُحكَم من جانب نظام لا يستند إلى الإسلام بشكل كامل، لأنه يقود دولة مواطنة، أو دولة قومية بالمعنى الذي ظهر بعد صلح ويستفاليا في العام 1648م، والذي أنهى الحروب الدينية والمذهبية في أوروبا.
ولقد اخترنا هذا المثال لأهميته في الحالة التي نتناولها؛ حيث نخص الحديث عن واقع الحالة الإسلامية في مرحلة كانت فيها على أبواب حكم دول بكاملها للمرة الأولى منذ انهيار آخر دولة إسلامية جامعة، وهي الدولة العثمانية.
في هذا الإطار، نجد أننا أمام ظاهرة "التسلُّف" - لو صح التعبير - حتى عندما قررنا كمسلمين، أو عاملين في الحقل الإسلامي، الانفتاح على الأفكار الأخرى، والأخذ من تجارب مفكرين لهم باعٌ وصيتٌ.
فعندما قررنا أن نحكم، وتبنى الإسلاميون مفاهيم الحكم المدني، لدولة مواطنة مؤسسية؛ أخذنا أفكارًا من مدارس سياسية واجتماعية وفكرية، قديمة للغاية، ولم تعد تصلح للحاضر مطلقًا، أو لا تتلاءم مع واقعنا المجتمعي والسياسي والثقافي في عالمنا العربي.
عندما قررنا أن نحكم، وتبنى الإسلاميون مفاهيم الحكم المدني، لدولة مواطنة مؤسسية؛ أخذنا أفكارًا من مدارس سياسية واجتماعية وفكرية، قديمة للغاية، ولم تعد تصلح للحاضر مطلقًا، أو لا تتلاءم مع واقعنا المجتمعي والسياسي والثقافي في عالمنا العربي
فهي إما تقف بدورها، عند حد القيمة والمثال، مثل أفكار أرسطو أو أفلاطون، أو وُضِعَت بناء على تصور مختلف للعمران السياسي والاجتماعي؛ حيث ظهر بعضها في فترات اللادولة أصلاً، أو في بيئة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة تمامًا.
فلا يمكن بحال تطويع حتى أفكار جون ستيوارت ميل أو جان جاك روسُّو، التي وُضِعَت بناءً على قيم غربية، ولبيئة سياسية غربية، وكذلك غربية ذات خصوصية، بعد انتصار الليبرالية والأفكار الرأسمالية، وسياقات الاستعمار حول العالم، واكتشاف الأمريكيتَيْن.
هنا، مفكروهم كانوا أذكى من مفكِّرينا؛ حيث بحثوا في كل هذه المساقات، وما أفرزته من نتائج وأمور مجتمعية وسياسية، وبنوا نموذج أو نماذج بناء على واقعهم واحتياجاتهم، ومتطلبات تطوير أنفسهم ومجتمعاتهم.
ولذلك؛ فإنه لا يكون من الصحيح بحال، أن نلجأ إلى هذه المدارس، ونحن نحاول أن نتحرك في مجتمعات ودول مختلفة بالكلية عن المجتمعات والدول لتي وُضِعت لها هذه الأمور.
في هذا الإطار، فإنه من الواجب الآن البحث في كيفية توظيف طرائق التفكير والعلم الحديثة، وكذلك توسُّل النماذج الحديثة التي يمكن أن تخدم المشروع الإسلامي، وفق اعتبارات موضوعية وواقعية.
من الواجب الآن البحث في كيفية توظيف طرائق التفكير والعلم الحديثة، وكذلك توسُّل النماذج الحديثة التي يمكن أن تخدم المشروع الإسلامي، وفق اعتبارات موضوعية وواقعية
ومن ثَمَّ؛ فإن هناك ضرورة أولاً، للانفتاح على الثقافات الأخرى، والأخذ من الجيد منها.
وهنا فإن لمراكز البحوث في مختلف البلدان التي حققت تقدمًا في مجالات السياسة والنظم والإدارة، أهمية كبيرة في التعاطي مع مخرجاتها ومنتجاتها، من كتب ودوريات ودراسات.
فهذه البلدان لم تقُم هكذا، وتتسيَّد العالم، إلا من خلال نماذج عمل وطرائق تفكير ومنظومات اجتماعية وسياسية وصلوا إليها بعد الكثير من الأزمات والحروب، خرجت منها شعوبها بقناعة بضرورة تجاوز الحالة الصراعية، إلى حالة التصالح مع الذات والآخر، وفق قانون تبادل المنفعة والمصالح.
وبالتالي؛ فإن هناك الكثير مما يمكن أخذه من تجارب هذه البلدان، من خلال مراكز التفكير "Think Tanks" التي تضم خبرات هذه المجتمعات بين جنباتها، وتعمل الحكومات جاهدةً على اتباع ما تشير به في دراساتها.
الأمر الآخر، أننا في عالمنا الإسلامي – وهو أمرٌ لا ينفصل عما سبق – بحاجة إلى حركة ترجمة واسعة أشبه بما تم في بدايات النهضة الإسلامية في عهد الدولة الأموية والعصر العباسي الأول ؛ حيث تحول بعدها المسلمون إلى مصدِّرين للمعرفة والعلوم.
ثم إننا بحاجة إلى مناهج تربوية تقوم على التفكير وإعمال العقل، وليس مجرد التلقين أو الاستناد إلى نظريات مثالية . هذه الأخيرة مطلوبة لغرس القيم، ولكن من الأهمية بمكان أن يكون الاتجاه العام في طريق كيفية تنمية التفكير الإبداعي والابتكاري، والتحرر من تابوهات الانحيازات والانتماءات، إلى آفاق أكثر موضوعية.