انهيار الأمة من انعدام القدوة

الرئيسية » خواطر تربوية » انهيار الأمة من انعدام القدوة
Ethnicity

وجود قدوة في حياة الإنسان يقتدي بها ويقتفي أثرها من الأمور المهمة في بناء الشخصية والرقي بها، لا سيما وأن هذه القدوة من نفس جِبلة الإنسان، وقد فطرت على ما فطر عليه، وتعتريها من الأحوال والظروف ما يعتري أي كائن بشري كان.

وعندما شاءت الإرادة الإلهية أن ترسل للبشرية على مدار وجودها رسلاً يهدونهم لطريق الصلاح، ويحررونهم من لوثات الأرض، فيخرجونهم من الظلمات إلى النور، إنما أرسلتهم من نفس الجنس البشري؛ ليستطيع البشر ويتمكنوا أن يقتفوا آثارهم في السلم والحرب، وفي الغضب والرضى، وفي تلبية غرائز الجسم وتطلعات الروح، نعم لم يكن من قبيل العبث أن يكون الرسل والأنبياء بشراً يأكلون ويشربون ويمرضون، ويحزنون ويفرحون، وتجري عليهم سنن الابتلاء من سراء وضراء، فيكونون بذلك علَم الهداية، ومنار أفراد الأمة وجماعاتها في كل أحوالها وتقلباتها.

اختبار ومقياس بسيط تستطيع أن تجريه على نفسك ومن حولك كلما أحسست بوهن في إرادتك، وخور في عزيمتك في تقلبات أحوالك، انظر فقط من قدوتك؟ أم أن هذه المساحة في هذه الفترة من الوهن قد أصبحت فارغة تماماً، حتى إذا استعرضت أحوال أولي العزم من الرسل ومن سار على نهجهم تجد ثمة بعث في نفسك ينهض بك من هذا التثاقل، ليضع لك خطة الارتقاء والنهوض، فتكون أولى خطواتها: اتخذ لنفسك قدوة.

اختبار ومقياس بسيط تستطيع أن تجريه على نفسك ومن حولك كلما أحسست بوهن في إرادتك، وخور في عزيمتك في تقلبات أحوالك، انظر فقط من قدوتك؟ أم أن هذه المساحة في هذه الفترة من الوهن قد أصبحت فارغة تماماً

وقد تتعدد القدوات في كل المجالات، ويحدث أن يخطر ببال أحدنا مَن مِن القدوات أجعله نُصب عيني في مسيرتي بهذه الحياة، ثمة قدوات كثيرة لا إنكار في ذلك، فقد تجد من سطّر نجاحاً باهراً في حقل من الحقول أو أكثر، فذاك في الرياضة، وآخر في السياسة، وآخر بالتربية، وهلمّ جرى، لكن بتاتاً لن تجد من يكون لك في كل الأحوال والظروف قدوة كاملة دون سقطات أو هفوات، إلا في فئة اصطفاها الله من البشرية، وصنعها على عينه، إنهم أنبياء الله ورسله الكرام، فيخرجك من حيرتك ويرسم لك خطوات الاقتداء رب العزة؛ إذ يقول جل علاه -وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ثلة من الأنبياء والرسل-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام، آية:90]، "أُولَٰئِكَ" يعني: الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان، وهم الأشباه، "الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ" أي: هم أهل الهداية لا غيرهم، "فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" أي: اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به".

فهؤلاء الصفوة من البشرية هم وحدهم الذين ثبتوا وقت أن تولّى الناس، وصبروا على محن الحياة ومصائب الزمن، كما أنهم لم تفتنهم الدنيا وقت التمكين والانتصار، فحقّ على من أراد سعادة الدنيا والفوز بالآخرة أن يقتدي بهم، ويتفكر برويّة في قصصهم، فذلك أدعى للاقتداء بهم.

ولما للقدوة من أهمية، ولأنها عامل التغيير والتحويل في بناء الفرد لذاته، وبالتالي لأمته، كان لا بد أن يهتم الشرع بهذه المسألة اهتماماً خاصاً ، ولأن هذه الحياة دار ممر لا مستقر، كان لا بد من توجيه الفرد المسلم للقدوة التي يجب أن يقتدي بها، والأسوة التي يتأسى بها في جميع أحواله من أعمال وأقوال وصفات وخصال تقوده للفوز والفلاح في الدارين، إذ من الهيّن السهل أن تجد من تقتدي به وبنجاحاته ومثابرته في مجالات هذه الحياة، لكنك لن تجد من يكون قدوة وأسوة لك لتحقيق سعادتك وفلاحك في الدارين، لذا جاء قول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب،آية: 21] وقد جاء في تفسير هذه الآية: "هذه الآية الكريمة أصل في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي في النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته، ومرابطته، ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل... أي هلّا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: {لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}".

إذاً، من كان اليوم الآخر والحياة الأخرى نصب عينيه، وفي بؤرة اهتمامه، فلم يحصر نفسه في مجال ضيق ولا في زمان وعمر محدود، كان لزاماً عليه أن يتخذ النبي الأعظم مثالاً وقدوة له في كل مراحل عمره، وفترات حياته، اربط نفسك بمن لم تنل الخطوب من عزيمته، ولم تضعف بشريته، وتسقط به أمام الفتن والشهوات، وهذا لا يكون إلا بنبي مرسل، أو بمن تربّى على موائدهم، وأخذ نفسه بالعزم والصدق والإخلاص، واجعل منه معيارك الذي توزن به كل الأمور، فلا يخذلك ولا يخيب ظنك كما يحدث من بعض البشر عندما ترجح كفة جِبِلّتهم الطينية على النفحة السماوية في أرواحهم.

من كان اليوم الآخر والحياة الأخرى نصب عينيه، وفي بؤرة اهتمامه، فلم يحصر نفسه في مجال ضيق ولا في زمان وعمر محدود، كان لزاماً عليه أن يتخذ النبي الأعظم مثالاً وقدوة له في كل مراحل عمره، وفترات حياته

ومن أهمية القدوة وعظيم أثرها:

1-بطبيعة الإنسان أنه يميل أن يقتفي أثر غيره، ويقتدي بالناجحين ومن يشار لهم في البنان.

2-وجود شخص كمثال حي أمامك يحقق النجاحات ويتحلى بمكارم الأخلاق وفضائل النفس والسلوكيات -يعطي انطباعاً لدى غيره، وقناعة عن إمكانية أن يحقق ما حققه.

لهذا لا عجب أن تجد وسائل الإعلام تبرز لك من فترة وأخرى مجالاً تجذب انتباهك له، بل وتتلاعب في حسّك وذوقك وعقلك؛ لتقدم لك وفق أجندة معينة قدوة قد صنعوها بمقاييس يرتضونها، لتكون مقاييسك أنت أيضاً وفق ما أرادوا، ولأنّ الذين يُصنع الإعلام على عينهم لا يريدون لك إلا العيش وفق بوصلتهم، فلا حرج إن قدموا لك من تعتز وتفتخر بهم بقليل من الموضوعية، وكثير من الزيف والتضليل ، فيقدموا لك مثلاً صورة قائد معين على أنّ جلّ اهتماماته إنما كانت تنصب على سفاسف الأمور وتوافهها، أو تسلط الضوء على زلّات نادرة لفاضل، أو هفوات قائد، مما لا تنفك بشريته منه في مقابل تغيب كبير وتعتيم على كل مساحات الخير في حياته.

وما زال بعضنا يتساءل عن سبب الانهيار الذي تمر به مجتمعاتنا، ودركات الانحطاط والسقوط التي يهوي بها شبابنا، وقد غفل عن أهمية تغييب القدوة الحسنة في حياتهم ، فلا تجد الفتاة تعرف عن سلفها من زوجات أنبياء وصحابيات وصالحات، كانت الواحدة منهن تجود بنفسها وولدها وكل مالها في سبيل رسالتها، وبعد كل هذا نعجب من الميوعة التي بُليت بها بنات المسلمين، وتهاويهن على سفاسف الأمور، فتجد اهتمامات الواحدة منهن لا تتجاوز حدود آخر صيحات الموضة من ملبس أو مظهر.

أما شبابنا، فالغفلة أطبقت عليهم وأحكمت قيدها، إن سألت عن ما يعنيه له اسمه -وقد سماه الآباء والأجداد تيمناً بنبي أو تبركاً بصحابي، أو تطلّعاً لأن يكون قائداً أو فارساً مغواراً- وجدت الهوة السحيقة بينه وبين اسمه ما يشيب لها رأسك، كيف لا، وآمالهم لم تبرح ملعباً من الكرة، وأقصى أمله في الوجود أن يكون مشهوراً رياضياً أو فنياً، وقد غيبت حقائق الوجود ومعالم اليوم الآخر عن وعينا تغييباً متعمداً، ومن أسباب ذلك تغييب القدوة الحسنة عن محافلنا ومجالس بيوتنا، ومقاعد الدراسة من مدارسنا وجامعاتنا ومنابر إعلامنا.

لقد غيبت حقائق الوجود ومعالم اليوم الآخر عن وعينا تغييباً متعمداً، ومن أسباب ذلك تغييب القدوة الحسنة عن محافلنا ومجالس بيوتنا، ومقاعد الدراسة من مدارسنا وجامعاتنا ومنابر إعلامنا

ومن يرد تصحيح الموازين وضبط البوصلة للرقي بالأمة كل الأمة، والعودة بها إلى خيريتها على سائر الأمم انطلاقاً من قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران، آية:110]، وإنقاذ سائر الأجيال من غفلتها، وتسليط الضوء على الغاية التي خُلقت لها، فالحل يكمن في تكاتف الجهود من وسائل إعلام ومقاعد دراسة، ومحاضن تربوية، وتقديم القدوة الحسنة التي حققت سعادة الدنيا والفوز بالآخرة، وقلبت الموازين، فأصبحوا قادة للأمم على كافة المستويات بعدما كانوا قبائل يتناحرون في عمق الصحراء، وما هؤلاء إلا ثلّة كان رسول الله قدوتهم وأسوتهم، وكل من سار على نهجه واقتفى أثره.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …