يبدو أنه قد كُتِبَ على المسلمين الفجيعة في هذا العصر. فَيَوْمًا بعد يوم تطالعنا الأخبار بجرائم مروِّعة في حق المسلمين، هنا وهناك؛ لا يُفترض أن نراها في عصر "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية"، وغير ذلك من الشعارات التي ثبت أنها شعارات فارغة جوفاء فعلاً.
ولعل في جريمة المسجدَيْن في نيوزيلندا، التي وقعت صباح أمس الجمعة 15 مارس؛ دليل على هذا الذي نقول؛ حيث جاءت الجريمة في توقيت تملؤه حوادث المهاجرين القادمين من بلدان عربية وإسلامية، يلقون حتفهم غرقًا في مياه البحر؛ لا يجدوا حتى مَن يكفِّنَهم.
أو نسمع عن جرائم يُحرَق فيها الناس من جانب أنظمة وحكومات المُفترض أنها هي التي تقوم على أمورهم، وتحميهم، على النحو الذي نراه في سوريا.
بل إن القتل شاع في المسلمين بأيدي المسلمين، على النحو الذي نراه في اليمن، وفي أفغانستان، وفي بقاع عدة من العالم.
ويتصل بذلك العديد من القضايا التي ينبغي فتح المجال واسعًا أمام مناقشتها مناقشة صريحة، مثل قضية تبرير بعض "الإسلاميين" للعنف والإرهاب باسم الدين، أو تكفير المسلم، وغير ذلك مما بات من أسوأ ألوان الفتن التي طالت الأمة الإسلامية.
إن المشاهد الصادمة للدماء والأرواح التي تُزهَق؛ تتطلب حديثًا صادمًا بدوره.
وأول نقطة تنبغي الإشارة إليها، هي أن مواقف الحكومات العربية والإسلامية لا ينبغي التعويل عليها بأي وجه من الأوجه.
وبعيدًا عن المضمون البديهي المتعلق بتقصير، بل وتواطؤ بعض هذه الحكومات، مع أعداء الأمة؛ فإن هناك نقطة شديدة الأهمية تبرز عندما نقول "مواقف الحكومات العربية والإسلامية"؛ حيث إننا نعني كل الحكومات؛ حيث لم يقدم أيٌّ منها في السنوات الماضية شيئًا احتوى على حماية حقيقية للمسلمين، بالذات الأقليات المسلمة، وبالتحديد الأقليات المسلمة في البلدان الغربية التي تشهد تصعيدًا هائلاً في لغة التحريض ضد المهاجرين والأقليات بشكل عام، ولاسيما المسلمة منها.
لم تقدم أي حكومة عربية أو إسلامية في السنوات الماضية شيئًا احتوى على حماية حقيقية للمسلمين، بالذات الأقليات المسلمة، وبالتحديد الأقليات المسلمة في البلدان الغربية التي تشهد تصعيدًا هائلاً في لغة التحريض ضد المهاجرين والأقليات بشكل عام
وحتى الحكومة التركية؛ لم تقم بما فيه تقديم حماية حقيقية لهؤلاء، مهما قيل من تصريحات ومواقف عن أزمات مثل "الروهينجيا" في ميانمار، أو "الأويجور" في الصين، فالمعاناة لا تزال مستمرة، ولم تجدِ معها التصريحات.
الأمر الآخر الصادم الذي ينبغي الحديث فيه؛ هو أنه على المستوى الإحصائي؛ مهما قامت به قوى غير مسلمة، مثل اليمين المتطرف في الغرب، أو في الكيان الصهيوني ذاته، من جرائم في حق المسلمين؛ فإنه لا يرقى لمستوى ما يُرتَكب من جرائم بأيدي المسلمين بعضهم ببعض.
وبينما من المفترض أن يتفرغ العلماء المسلمون لبحث هذه القضايا؛ فإنهم تفرغوا للمشاحنات المذهبية والطائفية، بل والسياسية؛ حيث نجد الكثير من الهيئات العلمائية قد تركت مهامها الأصلية في رعاية أمور المسلمين الدينية والدنيوية، إلى أن تكون عنصرًا أو أداة في صراعات سياسية بين الأنظمة الحاكمة وبعض الجماعات والحركات الإسلامية.
تفرغ العلماء للمشاحنات المذهبية والطائفية، بل والسياسية؛ حيث نجد الكثير من الهيئات العلمائية قد تركت مهامها الأصلية في رعاية أمور المسلمين الدينية والدنيوية، إلى أن تكون عنصرًا أو أداة في صراعات سياسية بين الأنظمة الحاكمة وبعض الجماعات والحركات الإسلامية
وذلك بينما كان من المفترض في الأصل أن تقوم هذه الهيئات بالتدخل القوي والحاسم، في مشكلة التكفير وتبرير القتل، وكشف القناع عن تنظيمات الخراب والقتل التي شكلتها أجهزة مخابرات غربية للطعن في المشروع الإسلامي؛ فإن بعضها قد دعم هذه التنظيمات ضمن الصراعات السياسية القائمة مع الحكومات والأنظمة في عالمنا العربي في مرحلة ما بعد ما يُسمَّى بـ"الربيع العربي" وثوراته.
سمح ذلك بتفاقم مشكلة كبيرة تحركت في أوساط المهاجرين واللاجئين، الشرعيين غير الشرعيين في بلدان المهاجر الغربية، وهي مشكلة ظاهرة "الذئاب المنفردة"؛ حيث عانت دول أوروبية وغربية عديدة من عمليات إرهابية، مُنظَّمة وغير مُنظَّمة، قام بها مهاجرون ولاجئون، يتبنون أفكارًا ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ويصدرونها باعتبارها الإسلام حصريًّا!
الأمر الثالث المهم قوله في هذا الصدد، هو أن هناك أخطاء فادحة في إدارة ملف الوجود المسلم في مجتمعات المهاجِر، وبالذات التي تعلو فيها نبرة العنصرية.
هناك أخطاء فادحة في إدارة ملف الوجود المسلم في مجتمعات المهاجِر، وبالذات التي تعلو فيها نبرة العنصرية
فغالب الأمر، وباستثناءات محدودة؛ يتم إدارة التجمعات المسلمة في هذه المجتمعات، في إطار مفاهيم "التمكين" و"تمام الدين"، بينما هذه الأمور نسبية؛ حيث إن "تمام الدين" - كما تناولناه في مواضع سابقة من الحديث - هو في الأحكام الشرعية فقط، ولكن في إطار تطبيق الشريعة الإسلامية على واقع الحال؛ فإن هناك مسلمين في بعض المجتمعات، لا يزالون في مرحلة الاستضعاف.
ولا بأس من غرس فكرة الكبرياء بدين التوحيد الذي نفخر به جميعًا، ولكن هذا لا يدفع - وهو خطأ فادح آخر - إلى أن يحول البعض تجمعات المسلمين إلى "جيتوهات" مغلقة عليهم مثلما كان يهود أوروبا يفعلون في مرحلة التيه الكبير!
وهو أمر ليس بحاجة إلى أي إثبات، ولا يتحمل أي إنكار أو استنكار؛ فالذي يتجوَّل في شوارع لندن، عاصمة أحد أكبر بلدان الغرب تعايشًا وانفتاحًا؛ سوف يجد مفهوم "حي إسلامي" واضحة.
وهذا في المجتمعات التي تحمل نفسًا من الاعتزاز القومي؛ يجعل هناك الكثير والكثير من الحزازات التي تنقلب إلى جرائم مروعة مثل هذه التي وقعت في نيوزيلندا.
وفي الأخير؛ فإن هذا الملف مليء ليس بالشجون فحسب، وإنما بالدماء كذلك، وبالأرواح، وبمصائر مجتمعات كاملة، ولو لم يشعر قادة الرأي والسياسة والحكومات بأهمية وثقل هذه المسؤولية؛ فإننا سوف نكون جميعًا، مسؤولين أمام الله تعالى عن كل ذلك!