تحدثنا في الجزء الأول من (كيف تفكر الجماهير؟) عن فقدان الجماهير للتفكير الواعي وذوبان شخصيتهم الواعية وطغيان الشخصية الغير واعية لهم، كما أن العاطفة هي المسيطرة على الجماهير وهي من تتحكم في قراراتهم وتقييمهم للأمور وخلال السطور القادمة سوف نكمل ما بدأناه.
3. ضعف وفقدان الشعور بالمسئولية:
فمن كان يستشعر أنه مسئول في حالته الفردية يصبح في المجموع (الجماهير) غير مسئول أو يقل لديه الشعور بالمسئولية؛ وهذا ناتج عن الإحساس بأن المسئولية موزعة على المجموع (قطاع الجماهير كله) وهذا يفسر لنا تغير تصرفات البعض في وسط المجموع وضعف تحملهم للمسئولية.
هذا الضعف في الشعور بالمسئولية يؤدي بما لا يدع مجال للشك إلى التقصير في أداء المهام والأدوار الموكلة للأفراد، ويدعم التراخي والتكاسل عن أداء بعض المهام، ويزيل عن صاحبه في وسط المجموع الشعور بالذنب (فالجماهير لا تشعر بالذنب بسبب هذه الخاصية).
4. الشعور العارم بالقوة:
إن الوجود في وسط الجموع (الجماهير) أو الانتماء لمجموعة نفسياً وفكرياً أو ميدانياً يكسب الفرد الشعور العارم بالقوة مما يكسبه الشجاعة على الإقدام في فعل بعض الأمور التي لم يكن ليقدم على ارتكابها في حالته الفردية. فتراه يتحدث بطلاقة ويعبر عما بداخله بحرية، كما أنه يتشجع في ارتكاب بعض الجرائم أيضاً أو الآثام لم يكن يستطيع فعلها في حالته الفردية ولا يفكر في فعلها وهو وحيد.
ولكن هذا الشعور بالقوة غير مضبوط بالعقل والمنطق والتروي بل تتحكم في قيادته والسيطرة عليه العاطفة والحماسة المفرطة والمشاعر والأحاسيس مما يجعل هذه القوة في وضعية خطر دائم على الجمهور وعلى المجتمع ككل.
وهذا يفسر لنا كيف لمجتمع متحضر مثل المجتمع الألماني مثقف ومتعلم وتكاد تكون درجة الأمية فيه تقترب للصفر أن يخوض كل تلك الحروب والمعارك ويتسبب في كل تلك المجازر ويُقدم على كل هذا القتل والذي يعد في بعض الإحصائيات إلى قتل أكثر من 2 مليون إنسان وبكل تلك الأساليب الوحشية والأدوات غير الآدمية والتي وصلت في بعض الأحيان لأكل لحوم البشر.
الجماهير ليست فقط تشعر بالقوة ولكنها تكره الضعف ولا تهتم للقائد الضعيف وتفتك به حتى وإن كان هذا الضعف مرحلة بعد قوة، فالقائد يظل سلطانه على الجماهير قائماً مادامت قوته ظاهرة جلية واضحة فما أن تخفت أو تضعف تتحول معها قلوب الجماهير وآراؤهم إلى غير ما يتمنى فتطيح به.
القائد يظل سلطانه على الجماهير قائماً مادامت قوته ظاهرة جلية واضحة فما أن تخفت أو تضعف تتحول معها قلوب الجماهير وآراؤهم إلى غير ما يتمنى فتطيح به
5. عدم التدرج في تقبل الأفكار:
ومن عجائب العقلية الجماهيرية (العقلية الجمعية) أنها لا تقبل التدرج في تلقي الأفكار ، فإما أن تقبل الأفكار دفعة واحدة أو أن ترفضها دفعة واحدة، وهذا يفسر تقديس الجمهور لكل ما يميل له أو يستشعره، وعداوته ومحاربته لكل ما يكرهه ويرفضه.
وهذا راجع إلى أن عاطفة الجمهور تتأرجح بين الضخامة والتبسيط فمرة تجدها أقصى اليمين وتارة أخرى أقصى اليسار، فالجمهور لا يعرف الوسط ولا يرى الفروقات الدقيقة ولا يعرف التدرج في سلوكياته وهذا يجعل الجمهور (مرتاح الضمير) فالجمهور لا يترك لنفسه فرصة للشك أو التفكير.
6. الوقت جزء من الأفكار:
فالوقت عنصر هام من عناصر ترسيخ الأفكار لدى الجماهير، فالجمهور يحتاج إلى وقت كبير كي تترسخ الأفكار والمعتقدات لديه كما يلزمه أيضا مدة لا تقل عنها كي تتغير تلك الأفكار والمعتقدات .
فاستثارة عواطف الجماهير أمر سهل للغاية وهذا يعود إلى سرعة الانفعال والاستثارة وعدم ثباتها وكثرة تقلبها، فمن النادر أن تجد الجمهور هادئاً وسرعان ما يعود لحالة الهيجان والاستثارة. أما منظومة بناء الأفكار وترسيخها لديه فهي غاية في الصعوبة وتحتاج وقتاً ومجهوداً خلاف العاطفة.
استثارة عواطف الجماهير أمر سهل للغاية وهذا يعود إلى سرعة الانفعال والاستثارة وعدم ثباتها وكثرة تقلبها، فمن النادر أن تجد الجمهور هادئاً وسرعان ما يعود لحالة الهيجان والاستثارة. أما منظومة بناء الأفكار وترسيخها لديه فهي غاية في الصعوبة وتحتاج وقتاً ومجهوداً خلاف العاطفة
كيفية التعامل مع الجماهير:
وبعدما مررنا سريعا على كيف تفكر الجماهير نأتي إلى طريقة التعامل مع الجماهير فما هي الخطوات والإجراءات والتوصيات العملية لقادة الجماهير أو المتصدرين للعمل العام والجماهيري أو حتى أئمة المساجد والمعلمين في المدارس ومدراء الأعمال في مصانعهم وشركاتهم خلال التعامل مع الجماهير:
- العاطفة فالعاطفة ثم العاطفة، هذه هي الأداة السحرية في التعامل مع الجماهير هي أن تكسب ودهم بالحديث بشكل عاطفي حماسي ملهم تكثر فيه الشعارات وفتح باب التخيلات والأمل .
- قلل من التبريرات المنطقية والعقلانية فالجمهور لا يلتفت إليها، وأكثر من الشعارات والكلمات الرنانة التي تلهب المشاعر وتفتح الأبواب أمام الخيال.
- تطوير الشخصية (للقائم بالعمل الجماهيري) والعمل على تنمية واستثمار الصفات والسمات الشخصية والعمل على التأثير بها؛ فالجماهير تتأثر بالشخصيات لا بالأفكار، فالجماهير تحتاج إلى قائد تتجسد فيه الأفكار ، كما أن الجماهير لا تقبل الضعف.
- تطوير مهارة التأثير بالصور والألوان والربط الذهني بها لدى الجمهور.
- عدم الاصطدام بمعتقدات وأفكار الجماهير الثابتة، فهذا يتسبب في نفور الجماهير ومعاداتها للقائم بمثل هذه السلوكيات.
- الصبر والمثابرة على الجماهير وغفران ما تراه خطأ لها وعدم تصنيفها كعدو أو خصم.
- تعزيز الأفكار بالتجارب فالتجربة تعد من أقوى العوامل المؤثرة في الجماهير والتي تنبني عليها أرائهم وتتشكل بها عقليتهم.
ختاماً.. الجمهور مستعد أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، لأنه حين تكوينه ووجوده يعمل وفق قواعد (العقل الجمعي) ولذا فإن القادة عليهم توجيهه وفق الأفضل واستثمارهم نحو بناء المجتمع ونهضة الأمة.