إنّ الخلاف ليس كله شراً، وما كان شراً فيمكن تقليل شره، وإطفاء ناره .
إنّ الخلاف كان موجوداً في أفضل وأتقى وأنقى جيل وهم الصحابة الكرام-رضي الله عنهم- وكان مستديماً بين ورثة الرسل من العلماء، وهم خيار الأمة وأفضلها، ولكن هذا الخلاف كان يُدار على نحوٍ يُجلّي الحق ولا يفرّق القلوب، وإنّ لهذا الخلاف أسبابه المتنوعة التي يرجع بعضها إلى طبيعة الشخص وبعضها إلى بيئته وظروفه المحيطة وبعضها إلى تكوينه وحصيلته العلمية.
من المهم النظر إلى الخِلاف بواقعية وتكوين اللياقة النفسية لتقبله والتركيز على أسلوب التعاطي مع الخِلاف والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها من يتجاذبون أطراف القضايا ويختلفون حولها؛ فإنّ هذا سيردم كثيراً من الخنادق الفاصلة، ويصل بين الجزر المتباعدة، ويُقرّب الحقيقة، ويُجلي الرؤية بعيداً عن التعصب والهوى، وما يتفرع عنها من إثارات وثارات نفسية.
إنّ الخلاف كان موجوداً في أفضل وأتقى وأنقى جيل وهم الصحابة الكرام-رضي الله عنهم- وكان مستديماً بين ورثة الرسل من العلماء، وهم خيار الأمة وأفضلها، ولكن هذا الخلاف كان يُدار على نحوٍ يُجلّي الحق ولا يفرّق القلوب
إنّ الخلاف باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا تحلم بأن يتفق الناس على كل شيء، وبقاء الخلاف ينطوي على مقصدٍ رباني بالغ الحكمة، فكم تكون الأشياء مملة وعديمة الفائدة حين تتماثل! ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود 118].
مع الكتاب:
قدم الدكتور العودة في هذا الكتاب الذي يقع في 224 صفحة تتضمن ستة فصول عصارة ثلاثة كتب سابقة له هي (فقه الموقف، الأمة الواحدة، ولا يزالون مختلفين)، ثم أعاد صياغتها في كتابٍ واحد وهو (كيف نختلف).
الفصل الأول: أمة واحدة
قام المؤلف بتعريفنا بمعنى كلمة "أمة" وبإسهاب في محله عرّفها ونادى بلم شملها قلبياً وإمكانية اختلافها فكرياً، ولم يتوقف عند هذا الحد فبين لنا أن الاختلاف في الطرح الفكري هو الطبيعي، لأنّ تركيبة البشر والحياة تسير هكذا، وتحدث عن حقوق المسلم على أخيه ومنها: الحقوق القلبية كمحبة المسلم لأخيه وحسن الظن والفرح بما يصيبه من خير والعكس، والحقوق اللسانية كرد السلام وتشميت العاطس والتعليم للجاهل والأمر بالمعروف، والحقوق المالية كالصدقة والزكاة والإحسان وإطعام الجائع، والحقوق البدنية كنصرة المظلوم وفك الأسير وإغاثة المستغيث.
وذكر بعض ألوان تفرق الأمة ومنها: طبيعي ومعتبر وبعضها مرفوض ومنكر وأبرزها يكمن في: المذاهب الفقهية والفكرية، والأجناس والقوميات والشعوب، والقبائل، والجماعات والأحزاب والتيارات، كما يجيب العودة على الفرق بين الأمة المحمدية والأمم السابقة؟ وكيف اكتسبت الأمة الإسلامية تميزها وفاعليتها؟ وما هي الأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة وحذر القرآن الكريم الأمة الإسلامية من الوقوع فيها؟ وأجاب على ذلك من خلال تقرير حقيقة مهمة أشارت إليها الآيات القرآنية باعتبارها قاعدة إسلامية عريضة إجماعيه، وهي: أن الله سبحانه وتعالى عقد راية الإخاء والولاء والمودة والمحبة بين أهل الإسلام، في قوله تعالى: {إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92]، معتبراً أنّ الحقيقة الثانية هي الإشارة إلى ما وقعت فيه الأمم السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب وذلك لأن كل فئة أخذت بجزء من الدِّيْن وفرحت به، وغفلت عما سواه مما أخذت به فئة أخرى غيرها.
الفصل الثاني: سُنة الاختلاف
في هذا الفصل تحدث عن العديد من المحاور المهمة ومن بينها: هل من سبيل لرفع الخلاف؟ ومن ثمَّ أردفها بتطبيع واعتزال الخلاف.
وأكد العودة على أن الاختلاف جزءٌ من طبيعة الحياة حتى بين الأب وابنه، بل إنّ أعلم الناس، وأفهمهم للكتاب والسنة، وأكثرهم إخلاصًا، وأبعدهم عن الهوى، حصل بينهم اختلاف، كالخلاف الذي كان بين الأنصار، ونزل فيهم قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أو الذي حدث بينهم بعد وفاة النبي حيث اختلفوا في تسمية الخليفة.
غير أنه لفت إلى أن من فقه الصحابة التصرُّف في الأحوال الطارئة والمتغيرة بنوع من الاستحسان، في الانتقال من دلالة نص إلى نصٍ آخر، أو من نص إلى قاعدة أخرى مفهومة من نصوص عديدة، مما لا يجرؤ عليه إلا فقيه جهبذ، عظيم الإدراك، كما جرى لعمر حين أسقط الحد عام الرَّمادة، ومنع إعطاء المؤلَّفة قلوبهم من الزكاة.
الفصل الثالث: أسباب اختلاف العلماء
ذكر فيه معظم الأسباب التي أدت إلى الاختلاف بين العلماء، ومن أهمها: عدم وصول الدليل، أو أن الدليل قد يبلغ العالم لكن ينساه، أو يذهل عنه، أو عدم ثبوت الدليل، أو عدم دلالة الحديث أو النص على المقصود أو وجود معارض راجح لهذا الدليل، والتفاوت في القوة، أو الاختلاف في مقدار العلم، واختلاف الظروف والأحوال والبيئات، والطبيعة البشرية، والهوى والتعصب، ثم تحدث عن الكيفية التي يتم الترجيح بها بين الأقوال.
الفصل الرابع: كيف نختلف
كان فصل "كيف نختلف" هو الأكثر حضوراً في الكتاب حسب ما رأيت، لأنه حاوٍ للخطوات التي يُحبّذ اتباعها في الاختلاف مع ذكر أمثلة من العصور السابقة، صاحبها تقريب لما يحدث في زماننا الحالي خاصة التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي ودور كل من الأفراد والعلماء في هذا التوجه الجديد، ويبين لنا كيف يدخل البعض في حلقة التعصب المفروغة وكيف يتجنبها البعض.
رصد الكتاب مجموعة من الصور السلبية في واقعنا بشأن إدارة الحوار باعتبارها أخطر صور الخلاف السلبي والهدام الذي نعاني منه، مشيراً إلى أن أهم ما يكتنف هذا المبدأ من سلبيات هو منطق "إن لم تكن معي فأنت ضدِّي".
من الصور السلبية في واقعنا بشأن إدارة الحوار باعتبارها أخطر صور الخلاف السلبي والهدام الذي نعاني منه، هو منطق "إن لم تكن معي فأنت ضدِّي"
الأمر الثاني، هو الخلط بين الموضوع والشخص، بحيث يتحوَّل نقاش موضوع أو فكرة إلى هجوم على الأشخاص، وطعن في النيات، والثالث تدِني لغة الحوار والقعقعة اللفظية ومحاولة الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معك، والأحادية، والقطعية، وهنا يضع الكتاب يد القارئ على الصورة المثالية التي يسعى لتحقيقها، بحيث يدعو إلى ضرورة معرفة أدب الخلاف، معترفاً في الوقت ذاته، بأن القليل من يستطيعون أن يطبِّقوا هذه النظريات ويحوِّلوها إلى واقع في سلوكهم العملي، أوفي علاقاتهم مع الآخرين، لكن لا مناص من المحاولة بأن ندرّس هذا المفهوم في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا؛ ليتحوَّل إلى عادة وعبادة في الوقت ذاته، كما تحدث عن أخلاقيات الخلاف وأهمها الإنصاف وعدم التعصب وكيفية إدارة الخلاف.
الفصل الخامس: الاختلاف المحمود والمذموم
وضح في هذا الفصل اختلاف التنوع واختلاف التضاد، ويرى الكتاب أن هناك فرقاً بين التفرُّق والاختلاف، فالتفرُّق مذموم بإطلاق، أما الاختلاف فليس كذلك ، وقد يأتي في مقام الذم، أو في مقام العذر وعدم المؤاخذة، أو يقع ممدوحاً أحياناً، وأشار إلى أن الاختلاف إذا كان مبنيًّا على أُسس صحيحة، فهو إما أن يكون محمودًا، أو أن يكون صاحبه معذورًا؛ ولذلك جاء في حديث عَمرو ابن العاص: «إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
وأوضح أن من الاختلاف المحمود هو اختلاف التنوع أي كون الأمة أخذت من كل خير بطرف، وفي المجال العلمي الشرعي هناك اختلاف السنن التي وردت بصيغ متعدِّدة، مثل: الصيغ المختلفة لدعاء الاستفتاح، والصيغ المختلفة للتشهد، مشيراً إلى أنَ الأخذ بكل هذه السنن يعد اختلاف تنوع محمود، ومثل ذلك المسائل التي ليس فيها نص ظاهر، واجتهد فيها أهل العلم من السلف والخلف، واختلفت آراؤهم فيها بما لا يمكن الجزم معه بصواب أحد أو خطأ أحد، ومثل هذا حصل حتى مع الصحابة، ولذلك نصَّ جماعة من أهل العلم على أن اختلاف الصحابة رحمة.
وتطرق الكاتب إلى اختلاف التضاد وهل هو محمود أو مذموم؟ طرح الكتاب هذا التساؤل، بينما الإجابة قد تشكل مفاجأة لدى الكثيرين فهو يعتبر اختلاف التضاد الذي لا يمكن الجمع فيه بين القولين المختلفين يحرِّك العقول؛ لأن جمع الناس على رأي واحد سبب في خمول ورَتَابة الفكر؛ والرياح لا يلقِّح بعضُها بعضًا، إلا إذا كانت متعارضة ، وهكذا الآراء والأقوال والأفكار إذا اختلفت، وإذا كان هذا الاختلاف في الحدود المقبولة فإنه يترتب عليه صقل للآراء، وتنمية للعقول، وتدريب للأمة على التفكير وحسن النظر والاختيار، لكنه أشار إلى أنه إذا كان اختلاف التضاد في مسألة يسوغ فيها الاختلاف، بحيث يكون مبنيًّا على حجة شرعية، ولم يؤدِّ إلى تفرُّق، ولم يخرق إجماعًا قطعيًّا، فهو محمود، أما إن كان مبنيًّا على هوى أو تعسُّف، أو أدَّى إلى تفرُّق واختلاف في القلوب، وتغاير في النفوس، فهو مذموم، وما أدَّى إليه فهو مذموم كذلك.
الفصل السادس: وِحدة الصف، لا وِحدة الرأي
اختتم العودة كتابه بفكرة رائعة جوهريّة أسماها "وحدة الصف لا وحدة الرأي" أما أنا فأسميته بمسك الختام، أجاد فيه المؤلف أيما إجادة، هذا الفصل هو خلاصة الكتاب بيّن المحكمات من الشريعة "الدين الجامع" ومنها الوصايا العشر التي اجتمعت عليها الرسالات السماويّة وبها تكون وحدة الأمة ومصلحتها، ومن قرأه ووعاه فسيجد فيه إجابة الكثير من الأسئلة التي تثار حول هذا الباب، فلا مجال لوحدة الفكر؛ لأن الأفكار يجب أن تختلف وتتطور، لكن وحدة الصف مطلب لابد أن نسعى له، ولا بأس بأن يتحد الصف مع اختلاف الرأي.
لا مجال لوحدة الفكر؛ لأن الأفكار يجب أن تختلف وتتطور، لكن وحدة الصف مطلب لابد أن نسعى له، ولا بأس بأن يتحد الصف مع اختلاف الرأي
مضمون الكتاب يحتاجه أهل العلم والعامة، لنردّ اختلافنا إلى ضوابط وأسس شرعية وعلميّة منطقيّة فيكون الإبداع والنهوض سبيلنا، لا أن يكون سببه والخوض فيه أهواء النفس والانتصار لها فتتفرق بنا السبل.
لقد صدر الكتاب في التوقيت المناسب وله رسالة إحياء فكري مهمة، فمؤلفه عنون الكتاب "كيف نختلف؟" وليس "لماذا نختلف؟" فالاختلاف حتمي ولكن كيفيته هي التي تحدد مستوى الحوار ومستوى نضج التفكير، فمؤلفه شق طريق نقطة تحوله وقابليته للتغيير كما يستعرض لنا مراجعه في ذلك، الجدير بالذكر، هو أن المؤلف عنى كثيراً بالتخريج والتنقيح وإضافة المراجع لمن أراد أن يستزيد وظهر ذلك جلياً في كون أن المراجع وحدها احتلت قرابة العشرين صفحة!
وذكر العودة بعض العقبات التي تواجه وِحدة الصف ومن أهمها: تنزيل النصوص على غير وجهها، واعتبار أن الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة تنطبق على جماعة أو تنظيم، أو حزب أو طائفة، أو أن يقوم وجود فرد أو جماعة على أساس تقويض جهود إسلامية أخرى، يختلف معها في مسائل وجزئيات واجتهادات، أو افتراض أن الوِحدة الإسلامية لا تقع إلا حين الاتفاق على كافة التفصيلات والجزئيات، وبهذا تصبح الوِحدة حلما ما طائرًا لا يمتُّ إلى الواقع بصلة.
من العقبات التي تواجه وِحدة الصف: تنزيل النصوص على غير وجهها، واعتبار أن الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة تنطبق على جماعة أو تنظيم، أو حزب أو طائفة، أو أن يقوم وجود فرد أو جماعة على أساس تقويض جهود إسلامية أخرى، يختلف معها في مسائل وجزئيات واجتهادات
ورأى أن التأسيس لوِحدة الصف يكمن في ضرورة بناءَ الوِحدة الأخَويَّة الإيمانية على هذه العِصَم الكبار من أصول الشريعة، ومُحْكَمات الدين ضمانٌ لديمومتها، وحماية لها من التصدُّع والانشقاق والانهيار؛ لأنها واضحة لا لَبْس فيها، وهي أصول ثابتة مستقرَّة، بينما الوِحدة المبنية على شروط وفروع واجتهادات ومفردات، هي عُرضة للخلاف كلَّما مر جزء من الوقت، وكلَّما تنوَّعت الاجتهادات، وكلَّما كثر الناس، وكبرت عقولهم، واتسع علمهم، وبحثوا وحقَّقوا.
مع المؤلف:
سلمان العودة - سلمان بن فهد بن عبد الله العودة الجبري الخالدي- من مواليد عام 1956، داعية إسلامي، وأستاذ جامعي، ومفكر سعودي، ومقدم برامج تلفزيونية، كان من أبرز ما كان يطلق عليهم مشايخ الصحوة في الثمانينات والتسعينات، حفظ القرآن الكريم، وتخرج من كلية الشريعة وأصول الدين، ثم عمل معيداً في الكلية ثم محاضراَ، وعمل أستاذاً في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم لبضع سنوات، نالَ شهادة الدكتوراه في الشريعة وذلك قبل أن يُعفى من مهامه التدريسية في جامعة الإمام محمد بن سعود وذلك في 15/4/1414هـ بعد إيقافه عن العمل الجامعي لأسباب سياسية سعودية.
يعد "العودة" أحد أبرز الداعين لفهم معنى الخلاف البناء ونبذ التعصب في الرأي، وقد قدم نموذجاً راقياً في الرد على الآراء المخالفة، معتبراً أنّ الإقرار بضرورة الخلاف لا يساعد على تجاوز الهوة ورأب الصدع بقدر ما يؤدي إلى إثراء الأمة فكرياً ومساعدتها على البناء والنهضة.
اعتقل "العودة" في العاشر من سبتمبر 2017، على يد الأجهزة الأمنية السعودية نتيجة تغريدة له بعد أن أزعجته الأزمة الخليجية بعد فرض السعودية والبحرين والإمارات ومصر حصاراً على قطر، أعرب فيها عن رغبته في المصالحة، وفي الرابع من سبتمبر الماضي طالب المدعي العام للمملكة بإصدار عقوبة الإعدام ضده، نسأل الله له الفرج القريب والثبات.
بطاقة الكتاب:
اسم الكتاب: كيف نختلف
اسم المؤلف: د. سلمان العودة
دار النشر: مؤسسة الإسلام اليوم للنشر
سنة النشر: 2012م / 1433هـ
عدد الصفحات: 224