حوالي (80%) من حالات الخلاف بين حديثي عهد بالزواج -سواء فيما قرأت أو ما حضرته شخصياً- كان منبعها واحداً بلا خلاف: الجهل، أو سطحية المعرفة بهذا العالم الجديد، معرفة أغلبها مستسقى من العرف والتلفاز والتنشئة وشذرات من الدين.
والعلم الذي نعنيه في هذا المقام هو:
-بداية، علم منهجي بنائي، سابق للمرحلة التي يقدِم المرء عليها، ومؤد للتي بعدها، فمن هو بعد في مرحلة الخطبة لا يستقيم له أن ينشغل بالقراءة في شؤون الأطفال والتربية، كذلك التثقف في فنون التعامل الزوجي، لا ينبغي أن تؤجل إلى حين وقوع مشاكل منشؤها قلة الفهم للطبائع والنفوس أصلاً!
-وثانياً علم متكامل له ركنان، فقهي وتربوي، لا قوام لأحدهما قواماً سوياً بغير الآخر، وقد عرضنا في الجزء السابق للركن الفقهي، ونعرض تالياً الركن التربوي النفسي:
*ركن العلم التربوي النفسي:
ونعني به ما يتناول تصور مؤسسة الزواج وطبيعتها كما أرادها شارعها، وطبيعة كل جنس بصورة عامة وخصائصها؛ ذلك أن فهم مقاصد الأشياء التي خُلِقت لها، وطبائِعها التي طُبعت عليها، هو خير معين في حسن التعامل معها بما يلائم طبيعتها، وإرساء التوقعات المنتظرة منها ولها.
فهم مقاصد الأشياء التي خُلِقت لها، وطبائِعها التي طُبعت عليها، هو خير معين في حسن التعامل معها بما يلائم طبيعتها، وإرساء التوقعات المنتظرة منها ولها
فإذا فهمت أن الله سبحانه وتعالى أراد هذه العلاقة على أساس المودة والرحمة، والتعاون على البر والتقوى ابتغاء وجهه الكريم، لأدركت أن المعروف والإحسان والفضل هم روح المؤسسة وقوامها، لذلك لم يكن بدعاً أن تجد كثيراً من كتب الفقه تورد عبارات من قبيل: "لا يجب على الزوج حَدًّا لكن يَجمُل عِشرة"، "ولو فعلتِ الزوجة من باب المعروف فهو أولى وأدوم للمحبة".. إلخ .
فلو تسلط الزوج باسم حقه الشرعي في الإذن لزوجته بالخروج، فمنعها مثلاً من صلة رحمها -لغير سبب وجيه أو ضرر معتبر– وفي المقابل رفعت الزوجة البطاقة الحمراء بامتناعها عن الخدمة المنزلية، أو منّت بتقبلها لمشاركة السكن مع أسرته، وحقها شرعاً سكن منفصل ...إلخ، فأنّى تتأتى لمثل هذه الأنفس مودة ورحمة في نفسها قبل غيرها؟ وأين التعاون على البر والتقوى الذي هو غاية هذا الاجتماع؟ أين الله في مؤسسة لا تقوم ولا تدوم إلا بتوفيق الله؟!
وإذا فهمت المرأة –مثلاً- ما جبل الله عليه الرجل وتركيب الشهوة وقدرها فيه، لا تجدها تقع في مزلق مقارنة حاله بحالها حين تعلم أن زوجها ابتلي بـ "زوغان بصره"، حيث لا يحل له، فتقول له: "لماذا يصعب عليك غض البصر، وأنا لي عينان مثلك وأغض بصري؟
مثل هذه المداخل الجاهلة تعقّد الأمور ولا تصلحها، فإن الرجل والمرأة وإن اشتركا في مبدأ وجود الشهوة إلا أنهما يفترقان في كل متعلقاتها بعد ذلك تقريباً، وإذا فهم الرجل طبيعة المرأة سهل عليه التوافق مع متطلباتها على الوجه الذي تنتفع به، فكثير من الرجال يعتبرون التوسعة المادية على أهليهم مرادفاً لتلبية حاجات العواطف المعنوية التي تتطلبها النساء خاصة (الزوجة والبنات)، وهذه غير تلك، بل إن حضور المعنوي قد يعوض من نقص المادي ولا يكون العكس.
الرجل والمرأة وإن اشتركا في مبدأ وجود الشهوة إلا أنهما يفترقان في كل متعلقاتها بعد ذلك تقريباً
الخلاصة:
معرفة حدود الشرع وأحكامه هدفها تنوير بصيرة المسلم بما يجب عليه كما يحق له، بإنزال الدين منزلته، والتوقف عن التشريع من عند أنفسنا، ثم يكون التكامل الإلزامي بأدبيات النفس والتربية التي تغرس فيهما بذور الحكمة والمرونة في تطبيق ذلك التشريع في واقعهما.
وأهم ما ينبغي أن تخلقه هذه الثقافة المتكاملة في نفس صاحبها، هو تغليب استشعار عظم المسؤولية التي تمثلها مؤسسة الزواج ، والإعداد للكم المطلوب من كل طرف من البذل والعطاء قبل توقع المردود من صاحبه.
العلم أولاً يا سادة، ثم العلم ثانياً، ثم العلم ثالثاً، العلم بمراد الله على مراد الله، والعلم بالدين من الدين، وليس أجهل ممن يظن أنه علم واستكفى!