لا شك أن التربية الصالحة هي رمانة ميزان إصلاح الأوطان والمجتمعات، فما المجتمع إلا تجمع بشري كبير يعيش في ظل حقوق وواجبات لكل من أفرادها.
وتربية الأبناء -وبوضوح- من المهام الصعبة في هذه الحياة، مهما كان إخلاص الفرد دون أخذه بكافة المناهج التربوية الحديثة والخطوات الثقافية والتأهيلية التي تضيف له وتجعله يعالج كل مشكلة يتعرض لها في تربية أبنائه بالفهم والحكمة.
ولعل مشكلة عقوق الأبناء للآباء من المنغّصات الأسرية التي تجعل البيوت الآمنة مضطربة وغير مستقرة نفسياً وتربوياً، ومن ثم يصدر البيت للمجتمع قنبلة موقوتة بسبب سوء خلاف فرد من هذه الأسرة، والكارثة أن يكون العقوق من كل الأبناء لآبائهم، ونحن اليوم -ومع تزايد الشكوى- سنتحدث في مقالين عن الأسباب والعلاج لهذه المعصية التي تذهب بمستقبل الابن في دنياه وآخرته، وتكمن الأسباب في الآتي:
أولاً- سوء اختيار الزوجة:
وقد يستغرب البعض أن يأتي هذا السبب، وأنا تعمدت ذكره بشكل واضح، فمنبت أي عقوق أو إصلاح هو الأم ، فالزوج الذي يختار زوجة سيئة في بداية حياته فقد بادر بالعقوق لأبنائه من حيث يظن أنه يبرهم ويودهم، ولعل هذا السبب تحديداً من أهم أسباب انتشار العقوق كظاهرة مجتمعية يتحول معها الابن إلى شخصية سيئة الخلق والتعامل.
ونحن إذا أردنا أن ينصلح حال الأمة بأكملها، يجب أن نختار الجوهر الذي يحبب ويقرب، لكن وفي نفس الوقت فإن كمية التجمل التي تحدث أيام الخطبة تجعل العريس تائهاً مسلّماً بالواقع، سعياً لعفافه، واعتبار بعض الصفات السلبية في العروس شيئاً سيزول بعد الزواج، لكن يتمادى الأمر وتتحول التربية لحقل تجارب بلا خبرة أو سؤال أو حتى طلب العون من الله، فينشأ الطفل نشأة غير واضحة المعالم، متروكاً للشارع أغلب الوقت، مهملاً في وضعه وملابسه.
والأخطر أن بعض الزوجات يفرحن إذا سبّ هذا الطفل أقاربه، فتكون البداية مؤلمة، والقادم أشد إيلاماً، فينشأ عاقّاً وهو يردّ العقوق الذي كان له وهو في عالم الأرحام، ويظل الأب في عذاب؛ بسبب هذا الابتلاء المزدوج، زوجة سيئة وابن عاق!
الزوج الذي يختار زوجة سيئة في بداية حياته فقد بادر بالعقوق لأبنائه من حيث يظن أنه يبرهم ويودهم، ولعل هذا السبب تحديداً من أهم أسباب انتشار العقوق كظاهرة مجتمعية يتحول معها الابن إلى شخصية سيئة الخلق والتعامل
ثانياً- انعدام التقوى:
إن تقوى الله للآباء والأولاد من أهم عوامل تثبيت أركان أي بناء وازدهاره ، فبالتقوى كل شيء يقوى، وغياب هذا الأمر هو إعلان واضح بخروج البركة والحب من البيت، ودخول الشيطان ومقومات بقائه من حقد وعداء وبغض وكراهية، فيتحول البيت الذي كان دوره تأسيس جيل صالح إلى محضن للمفاسد، فلا طاعة أو تذكير بها، وعندها ينشأ الفتيان على ما كان يعلّمه والده، فضلاً عما يراه منه، فلا ذكر أو تلاوة قرآن، ولا صلاة أو استغفار أو صدقات، وعليه فلا قدوة صالحة، فيكون الناتج عقوقاً، وعقوقاً بلا نهاية! لذلك فتقوى الله هي خير زاد لنا في الحياة، وهي المنجية لنا ولأولادنا في الدنيا والآخرة، ومن يظن أن المال يسبب السعادة والبر فهو واهم، فالمال دون تقوى فساد وضلال، والتجارب كثيرة ومؤلمة.ثالثاً- التمييز بين الأبناء:
قلنا وما زلنا نكرر بأن فهم الأب -خصوصاً للعملية التربوية- من أهم عوامل الهدوء الأسري والعكس بالعكس. ولما كان الأبناء جميعاً يتطلعون لمعاملة واحدة بلا تمييز أو تفرقة بينهم فلا مدح لهذا وقدح لآخر، وعليه فإن الابن يشعر بالنفور من البيت ككل، وتقل في عينه توقيره لأبيه، فلا يرى الأمر كما كان من قبل بفعل أن والده يحب أخاه أكثر منه، أو يحابي أخته عنه، ولك أن تتخيل كمية المشاعر السلبية التي تتولد مع هذا الفهم، وهذا التصرف الأبوي الخاطئ.
إن المساواة بين الأبناء -حتى في تقبيلهم- مهم جداً، ومن غير المقبول أن يحدث هذا التمييز والتغيير في المعاملة وإظهار ذلك، فالجميع واحد أمام القانون الأبوي، والمودة والحنان الأسري مهم لما في ذلك من ثمار إيجابية على البيت والأولاد.
إن المساواة بين الأبناء -حتى في تقبيلهم- مهم جداً، ومن غير المقبول أن يحدث هذا التمييز والتغيير في المعاملة وإظهار ذلك، فالجميع واحد أمام القانون الأبوي، والمودة والحنان الأسري مهم لما في ذلك من ثمار إيجابية على البيت والأولاد
رابعاً- التأسيس الخاطئ:
إن الأبناء ثمرة الآباء، وعليه فإن الثمرة يجب أن ترعى، فتسقى بالحب والمودة، ونحافظ عليها بالتوجيه والاهتمام بغرس كل جديد وقيّم، حتى تثمر وتصبح نافعة لذاتها أولاً ولمن حولها.
ولما كان الأصل هو البر وليس العقوق، فإن غياب رؤية بر الآباء لآبائهم تعمق في نفوس الأبناء عدم الاهتمام ببر آبائهم ، فلا تقبيل لليد، أو طلب الدعاء، أو المساعدة، وقديماً قيل: "بِرّوا آبائكم يبرُّكم أبناؤكم"، فتلك معادلة البر والضمانة لعدم العقوق، وعليه فالأمر واضح، والكل مسؤول، وميزان البر مرهون بموقف الأبناء مع عدم رفع المسؤولية عن كاهل الابن، لكن ليست كمسؤولية الأب الموجِّه والمربي.
خامساً- رفيق السوء:
إن الصاحب كان وما زال من عوامل الإصلاح أو الفساد، والقرآن والسنة مليئان بالآيات والأحاديث التي تحذر من الرفيق السيء، لما له من تبعات مرفوضة شرعاً وديناً، حتى قيل إن شيطان الإنس أخطر من شيطان الجن، فالثاني يترك الإنسان من مجرد الاستعاذة، أما الأول فلديه همة في الإلحاح والكلام عالية جداً، تؤثر على تفكير صاحبه، وقادر أن ينقله من مواطن الهدى للضلال، خصوصاً مع بريق كلامه، واستجابة صاحبه أو إن شئت فقل ميله لذلك الأمر.
وعليه فقد يكون الصاحب عاقّاً لوالديه، ومحترفاً في ذلك، فيصدر الأحاديث لصاحبه، فيتأثر بها سلباً، ولا يرى مشكلة أو أزمة في حدوثها مرة ومرة، لذلك فمتابعة ومعرفة مع من يجلس ويتعرف ويصاحب الأولاد مهم جداً؛ لأنه يحدد مسيرهم ومسارهم، خصوصاً مع تفشي موجات الإباحية والإلحاد التي هي بلا شك من الثمار الخبيثة لمفاسد الأخلاق، وفى القلب منها عقوق الوالدين.
سادساً- تهوين العقوق:
إن العاق لوالديه لا يرى في ذلك جرماً أو أزمة كبيرة؛ وذلك لأنه ما زال في طور حياته فرداً فلا زوجة أو ولد لديه ليشعر كم هو مؤلم على الآباء أن يعقه ولده فلذة كبده، كذلك الفتيات، فلم يجرّبن واقع العقوق على قلوب أمهاتهم؛ لأنهن لم يتذوقن الشعور بالأمومة، وكم هو صعب أن تعلي الفتاة صوتها في وجه أمها وهكذا، وعليه فإن تهوين الأمر في نظر الشاب يجعله يأخذ خطوات أشد جرأة في عقوق والديه، دون شعور منه أنه بذلك يصيب قلب والديه بطعنة مسمومة قد يطول العلاج منها.
تهوين الأمر في نظر الشاب يجعله يأخذ خطوات أشد جرأة في عقوق والديه، دون شعور منه أنه بذلك يصيب قلب والديه بطعنة مسمومة قد يطول العلاج منها
سابعاً- البخل العاطفي:
إن البخل المادي برغم قسوته إلا أنه من السهل أن يتأقلم الأبناء معه، لكن البخل والشح العاطفي من الكوارث التي يستحيل التعايش معها، فالقسوة تولّد قسوة وجفاء، والفتور الأبوي تجاه الأبناء يولّد عدم استعانة واهتمام بالوالد ، والكارثة أن يكون هذا الداء موجود عند الأم التي هي منبع للحنان، وهنا فالأمر جد خطير، والسخاء والجود العاطفي لا مفر منه إذا أردنا لأبنائنا برّنا واحترامنا، وإلا فالعواقب وخيمة على الأبناء الآن، وحتى وهم آباء.
ثامناً- المسلسلات والأفلام:
مع الأسف الشديد الكثير من المسلسلات والأفلام في مجتمعاتنا تزرع العقوق بشكل أو بآخر، حتى أن أشهر الأفلام العربية سمي: "وبالوالدين إحساناً"، قصّ حكاية شاب يتبرأ من أبيه الذي ذاق الويلات، حتى يراه متقوفاً في حياته، ثم هو يسخر منه ويعلن خجله أنه ولدٌ له، وأنه أباه وهكذا.
فهذه رسالة قد يراها البعض مزدوجة، فهي تحذر من العقوق ومآلاته، لكن في نفس الوقت تقدمه كوجبة دسمة يستمتع بها المشاهد، وفي القرب منه الشاب الذي يجلس بالساعات، هذا فضلاً عن الأفلام والمواد الغربية التي تؤسس لخروج الشاب من حظيرة والديه، مع بلوغه مرحلة المراهقة، وقد يأخذ والديه إلى دار المسنين، والكثير الكثير من هذه المواد التى يرفضها ديننا الذي ربط توحيد الذات الإلهية ببر الآباء، فقال تعالى في كتابه العزيز: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [الإسراء،23].
لذلك فعلى الجميع أن يتيقنوا بأن عقوق الآباء اليوم هو داء عضال، تفشى وانتشر، ولا دواء له إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وفهم الحياة بشكل يعزز من الترابط الأسري، ويزيل أي مداخل للشيطان للفساد، فلا فائدة من ذلك، والجميع أيضاً سيدفع الثمن لو تخلى عن مسؤوليته، فهل وصلتنا الرسالة؟ أم أننا لا زلنا في سبات عميق؟