الربيع العربي بين فقه الثورة وفقه الفتنة

الرئيسية » حصاد الفكر » الربيع العربي بين فقه الثورة وفقه الفتنة
revolution-1wvo5lw

أسوء كابوس يواجه أي نظام سياسي هو قيام ثورة شعبية، لأن عقال الجماهير ينطلق، سبب هذا الانطلاق هو أن الاحتقان الشعبي صادف لحظة وعي تاريخية.

الثورة كابوس للمستبد، وحلم للثائر، ولكن سؤال ماذا بعد الثورة إذا لم يكن حاضراً في حسابات الثائر تضيع جهوده ويبتلعها المستبد، ذلك أنه يقدم تنازلات ومكاسب هشة تجعل الثائر يشعر بالانتصار، عندما يقبل الثائر بهذه المكاسب الهشة تتلاشى قوة الضغط المُستخدمة ضد النظام ويتمكن النظام من تولي زمام الأمور من جديد ونعود لحلقة الاستبداد المفرغة من جديد، لذلك على الثائر أن يدرك أن احتشاد الجماهير للمطالبة بالحقوق لا يعد نجاحاً، إذا فشل في إعداد خطة مستقبلية لمرحلة ما بعد الاحتشاد وإذا غابت الأهداف الكبرى وبقيت الثورة رهن المقامرة السياسية.

عدم دراسة الواقع وعدم البحث عن البدائل والخيارات، يجعلنا نقع في مصيدة الفهم النصفي العليل الذي يقول بأن علينا تعاطي الأسباب والقيام بثورات لإطاحة الحكم وليس علينا مناقشة مدى ترتب النتائج على هذه الأسباب، فالقيام بالثورة شيء ومآلات الثورة شيء آخر، هذا الفهم يدفع الإنسان للاستسلام ويريح العقل لأن هذا الفهم يجعل العقل يتوهم بأنه أُعفي من المسؤولية تجاه القضايا التي يخفق فيها، وإعادة النظر لاكتشاف الثغرات وتسديدها، فهو يلقي اللوم على الآخر ولا يفكر بأخطائه ولا يراجع خطواته.

الفهم الذي يفصل بين الأسباب والنتائج ويدفع الإنسان للاستسلام، فهم يُنافي جوهر الإسلام، فالإسلام كما يصفه الدكتور عماد الدين خليل، الدين الذي لم يرد لنا يوماً أن ننعزل الحياة ونأخذ منها موقف السلب والفرار، الإسلام حركة جهاد دائمة لتغيير العالم، لقد دعانا للنزول إلى الساحة من أول لحظة. ربما بعض الشعوب أدركت وفهمت نقطة أن الاحتشاد لا يعد نجاحاً ما لم يرتبط بأهداف وغايات واضحة وبديل سياسي معروف بين النخب الثورية، ولكن هناك تخوف وتساؤل يسيطر على هذه الشعوب، التخوف من ابتلاع القوة العسكرية لجهود الثوار، أما التساؤل هل تستطيع الشعوب عبور الازمة من خلال تعاقد بين النخب المدنية والنخب العسكرية؟!

يبدأ بناء الوعي العام من خلال "تنبيه حسّ الأمة بآلام الاستبداد"، ويمر بالبناء النظري للنظام السياسي البديل عبر "البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة".

والحقيقة أن الخطر لا يَكْمُنُ في تولي القوة العسكرية زمام الأمور أو سيطرتها على المشهد، ذلك أن الانقلاب العسكري عندما يكون موجهاً ضد سلطة مستبدة واستجابة لحراك شعبي ومكلفاً بتولي السلطة لفترة قصيرة ثم بعد ذلك تتولى السلطة النخب المدنية التي اختارها الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة، هذا الانقلاب يسمى انقلاباً ديموقراطياً على حد تعبير الباحث أوزان فارول، الخطر الحقيقي يَكْمُنُ في سيطرة الثورة المضادة على المشهد، التي تتمثل في أشكال عديدة، أسوء أشكالها هو شيخ الطاغية الذي يبرر الظلم ويشل الهمم ويرسخ اليأس في الأنفس.

خطر الثورة المضادة متمثل في غياب الاعتدال، الذي تحدث عنه الشنقيطي في كتابه الأزمة الدستورية فقال: غياب الاعتدال المقصود به هو أن الثورة المضادة تنقل ثورة الشعب من النهج الإصلاحي التفاوضي والسعي إلى الالتقاء على أرضية مشتركة من الإصلاح السياسي السلمي، إلى مواجهة وجودية هوجاء وعنف أعمى ناتج عن همجية الحكام في مواجهة المطالب الإصلاحية.

الثورات المضادة شلت الحراك الديموقراطي الإسلامي، وهي ليست حديثة، بل ظهرت منذ القرن الأول الهجري في خطاب الفقهاء المتمثل في تخويف الناس من الفتنة وإخمادهم للثورات والمطالبة بالحفاظ على وحدة الدولة، قد تكون دوافع الفقهاء في العصور الأولى ناشئة من رؤية واقعية وخوف مبرر بسبب الفواجع التي انتهت بها ثورات القرن الأول الهجري، لكن خطاب الخوف من الفتنة ظل مسيطراً وحاضراً بقوة في المشهد الإسلامي، فنشأت العلاقة الوثيقة بين المستبد ورجل الدين، فالمستبد مهمته أن يجعلك فقيراً وعلى هامش الحياة ورجل الدين مهمته أن يجعل وعيك غائباً وذلك يتم من خلال اتباع آلية التجهيل وآلية الإلهاء، فالتجهيل يقوم بتحريك الأذهان إلى جهل والغفلة عن القضايا المصيرية والشأن العام، أما الإلهاء فيهدف إلى إلهاء الإنسان عن الحقوق الكلية وجعله مهتماً بالحقوق الجزئية، بما يقع تحت فلسفة " الأهم والمهم" و" فقه الأولويات" فتجده منشغلاً بالمهم دون الأهم وبالهامش دون المركز، ليس هذا فحسب بل خائفاً من الحق وراضياً بالظلم تحت بند " الخوف من الفتنة".

خلاصة القول، ثورات الربيع العربي لن تؤتي ثمارها إلا إذا تحررنا من الخوف من الفتنة وتمسكنا بفعل ومنطق وفقه الثورة، التحرر من الخوف من الفتنة يمثل فرصة تاريخية بالنسبة للأمة، كيف ذلك؟!، الحضارة تتشكل ضمن تحديات كبرى وأحداث جسام، ويشترط قيام الحضارة وجود فرصة تاريخية للأمة تنتقل فيها من موضع المفعول به إلى موضع الفاعل. الإمام حسن البنا في حديثه عن النهضة يقول: "الغاية البعيدة لابد فيها من اقتناص الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين".

أزعم اليوم بأن الأمة الإسلامية تتاح أمامها فرصة تاريخية، فرصة الخروج من المأزق الحضاري، مأزق الخوف من الفتنة، هذه الفرصة تولدت مع الربيع العربي والوعي المصاحب له، فإذا كانت دولة النبوة والخلافة بقيمها الديموقراطية سباحة عكس التيار، لأن المدينة المنورة هي البقعة الوحيدة في العالم التي كانت تحكم بمبدأ الشورى والحكم الامبراطوري كان هو السائد، فاليوم الحكم الديموقراطي الذي يتماشى مع أمهات القيم السياسية الإسلامية هو السائد.

السؤال هنا ما الذي يجب علينا فعله كأفراد حتى نغتنم هذه الفرصة ونقتنصها؟! الجواب قدمه الكواكبي منذ زمن فقال بأن النخب الثورية يجب عليها نشر الوعي بين جماهير الشعب بفضائل الثورة ومساوئ الاستبداد، الوعي الذي يؤكد على أن الثورة ليست فتنة، فلا يكفي توافق النخب الفكرية والسياسية على ضرورة الثورة واعتبارها واجباً أخلاقياً، بل لابد من إشهار ذلك وبثه في جماهير الشعب وإقناع العامة به. فالجماهير هي وقود الثورات، وهي حصن المستبد في الوقت ذاته، ومن يكسبها إلى صفه هو الذي يكسب المعركة في نهاية المطاف.

يبدأ بناء الوعي العام من خلال "تنبيه حسّ الأمة بآلام الاستبداد"، ويمر بالبناء النظري للنظام السياسي البديل عبر "البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة".. وحينها تثمر هاتان المرحلتان "ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمنيّ في الطبقات السفلى" فتلك علامة نضج الظروف، والدليل على أن المجتمع أصبح في حالة ثورية. وحينها يصبح الوقت ملائماً لخوض مرحلة "المقاومة والمغالبة" أي مرحلة الفعل الثوري العملي لإسقاط المستبد.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • مدونات الجزيرة
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …