الطبيعة في الهوية الإسلامية

الرئيسية » بصائر الفكر » الطبيعة في الهوية الإسلامية
Reconnecting-with-Nature-1-1

إن من أهم أركان وملامح الثقافة والهوية الإسلامية ومن أهم محدداتها هي نظرتها للطبيعة -الكون ومكوناته، البيئة المحيطة بالإنسان من حيوان ونبات وجماد- ومكانتها في الإسلام، بل إن من أهم دواعي فخر المسلم تلك النظرة والتي سبقت كل هذه العبارات والجمل من الفلاسفة القدماء ونظرتهم للطبيعة.

وإن تلك النظرة وتلك المكانة التي حظي بها الكون وتقلدتها الطبيعة في الإسلام لأساس من أسس المنهج الإسلامي في التعامل معها، والذي حدّد لها أدواراً واضحة جليّة، وضمن لها حقوقاً، وشدّد عليها وتوعّد المخالف لها بالجزاء والعقاب.

-الطبيعة ومقام العبودية:

وإن من أول تلك المحددات لنظرة الإسلام للكون والطبيعة هو مقام العبودية، فالإنسان وباقي مكونات الكون كلهم مخلوقون لنفس الأمر والمهمة، ولكن بأشكال مختلفة وطرق مختلفة أيضاً، فاقرأ إن شئت قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء،آية:44].
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج،آية:18].

بل ومن العجيب أن نرى أن هذه المنظومة (العبودية) متناسقة متكاملة، وأن المكوّن الوحيد الخارج عن هذا النسق هم (بعض) الناس -أي الإنسان- فلك أن تراجع آية الحج مرة أخرى وتلاحظ (من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب)، وعند الإنسان قال عز وجل: {وكثير من الناس}، ولم يقل سبحانه و(الناس) ورغم هذا النكران من البشر إلا أن المنظومة واللوحة الجميلة لم تتشوه بهذا النكران والكفر، فالطبيعة مفطورة على هذا الأمر محمولة عليه -عبودية خالقها وفاطرها- فهذا الكفر والنكران ختمت بمصيره الآية بقوله تعالى: (وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء).

-مقام النفع والتسخير للإنسان:

وإن من محددات نظرة الإسلام للكون والطبيعة هو مقام النفع والتسخير من الله لنفع الإنسان؛ وهذا لأن الله عز وجل قد جعل الإنسان خليفته و(المكلف) بعمارة الأرض، وحامل تلك الأمانة ، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} [الأحزاب،آية: 72]، وإن هذا النفع والتسخير تعددت أشكاله وطبيعته، فاقرأ إن شئت قوله تعالى:

*{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية، آية:12]

*بل وسخر الفلك: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم، آية:32].

*{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل، آية:5].

والآيات في هذا المقام كثيرة، والتي تبين وتوضح مقام الطبيعة في التسخير ونفعها للإنسان لأداء مهمته الموكلة له في إعمار الأرض وخلافة الله عز وجل.

-مقام التأمل والتفكر والاستلهام والعلم:

وإن مما لا يخفى على أي باحث هو نظرة الإسلام وتقديره لمكانة الكون والطبيعة في تقديم العلم والاستلهام الفكري للإنسان، وأن تكون مصدراً للتأمل والتفكر في عظيم خلق الله عز وجل، وعلامة من علامات التقدم، فاقرأ إن شئت قوله عز وجل:

*{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)} [الغاشية].

*{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران، آية:190].

-وفي مقام التعلم المباشر: اقرأ -حفظك الله- قوله تعالى:

*{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة، آية:31].

*{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)-إلى أن يقول تعالى:- فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)} [النمل]، فكانت النملة والهدهد في مقام المعلم والمذكر.

-وفي مقام الإلهام والتمثيل: لأخذ العبرة اقرأ آيات الله عز وجل:

*{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت، آية:41].

*{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة، آية:5].

-مقام التوازن واستقرار الكون:

وللطبيعة مهمة عظيمة ومكانة هامة، ألا وهي استقرار النظام الكوني وتوازن قواه، والإسلام قد أمعن في هذه القيمة ، فاقرأ كلامه سبحانه وتعالى:
*{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر، آية:19].

*{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر، آية:49].

*{وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ(37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِير الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)} [يس].

*{وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل، آية:15].

-مقام الجمال والزينة والإحساس والعاطفة:

وليست نظرة الإسلام للطبيعة والكون نظرة مادية بحته، بل إن الإسلام قد أعطى الجانب المعنوي والنفسي قدره ومكانته في عنصر الطبيعة بمكوناته ، فقال تعالى:
*{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل، آية:6].

*{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل، آية:13].

*{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر، آية:16].

كما أن الإسلام قد حفظ لها حق الشعور والإحساس، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ تحوّل، فحنّ الجذع، فاحتضنه فسكن"، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة) (رواه مسلم).

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أُحُداً جبل يحبنا ونحبه) (رواه مسلم).

حقوق الطبيعة في الإسلام:

وبعد هذا العرض، فإن للطبيعة حقوقاً ينبغي على الإنسان مراعاتها وتتمثل بما يلي:

- الرفق معها طاعة، فدخول بغي الجنة في كلب أكبر عبرة.

- الإساءة لها معصية، ودخول امرأة النار في هرّة حبستها عبرة.

- النهي عن التحريش بين الحيوانات، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم.

- النهي عن الفساد فيها: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة، آية:205].

إن نظرة الإسلام للطبيعة تحتاج من الباحثين مجلدات كي يسطروها بشكل يليق بها وبمكانتها في الإسلام، فواجبنا تجاه هويتنا الإسلامية هو نشر تلك الثقافة والتعريف بها في كل الدنيا، فالإسلام وهويته مصدر فخر لكل البشرية وليس المسلمين فقط.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب مصري ومستشار اجتماعي وإعلامي .. مهتم بمجال تربية الأبناء

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …