تأتي ذكرى الإسراء والمعراج، لتشير إلى الأمة بما بين المسجدين الكريمين، الحرام والأقصى، من ثنائية وتلازم واقتران.
فهما مسجدا الدنيا اللذان أراد الله بناءهما، واختار لهما مكانيهما، وفي ذلك دلالة قاطعة على عظم المبنى وعظم المكان.
بناؤهما واختيار مكانيهما
روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟، قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟، قال: أربعون سنة".
يقول القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (واختلف في أول من أسس بيت المقدس، فروي أن أول من بنى البيت_ يعني البيت الحرام_ آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل والله أعلم).
وأورد ابن حجر في الفتح: (إن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل الملائكة، وقيل سام بن نوح عليه السلام، وقيل يعقوب عليه السلام، وقد وجدت ما يشهد ويؤيد قول من قال: إن آدم عليه السلام هو الذي أسس كلا المسجدين، فذكر ابن هشام في (كتاب التيجان) أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه).
وذكر السيوطي في شرحه لسنن النسائي: (أن آدم نفسه هو الذي وضع المسجد الأقصى، وأن بناء إبراهيم وسليمان تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه).
قال النووي في شرح مسلم: ورد أن واضع المسجدين آدم عليه السلام، وبه يندفع الإشكال_ بأن إبراهيم بنى المسجد الحرام وسليمان بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من أربعين عامًا_ بلا ريب فإنهما هما مجددان.
ثنائية واقتران
هكذا كان بناء المسجدين بأمر من الله لنبيه آدم عليه السلام على أصح الأقوال، وهكذا كان اختيار الله لمكانيهما.
وجاء أعظم الاقتران والتأكيد على هذه الثنائية المباركة_ بعد بنائهما بأمر الله_ في رحلة الإسراء والمعراج، حيث جعل الله الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الإسراء:1].
وقد جعل الله عزوجل فضلا لهذين المسجدين ليس لسواهما، اللهم إلا ما كان للمسجد النبوي ثالثهما، وذلك تكريماً للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (متفق عليه).
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة" (أخرجه البيهقي).
شبهة حول المسجد الأقصى
وقد حاول بعض المغرضين المأجورين المعاصرين إثارة الشبهات حول المسجد الأقصى، فقالوا بأن المسجد الأقصى الذي ذكرته آية الإسراء ليس هو المسجد الأقصى الموجود في فلسطين، ولكنه مسجد كان على أطراف مكة في أقصاها.
ونرد على مثل هذه الشبهة السخيفة بالنصوص التالية:
- روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه.. فركبته حتى أتيت بيت المقدس.. فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء.. ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين".
- وروى أحمد عن ابن عباس قال: "أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم".
-وفي تفسير قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} يقول ابن كثير: (من المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل، ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فأمهم في محلتهم.
وهذا الرأي السخيف لا يقول به اليوم إلا المنافقون صهاينة العرب.
و(المنافقون) هو مصطلح أطلقه الله وأطلقه رسوله وصحابته على أولئك الذين ادّعوا الإسلام ظاهرا، وأبطنوا الكفر حقيقة.
وقد كان المنافقون معدودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن، في عصر ضعف دولة الإسلام وهزيمتها فهم كثر، يُعدون بالآلاف، وخصوصا من رجال الفكر والأدب والسياسة.
وإذا كان المنافقون الأوائل قد خافوا من بطش دولة الإسلام في المدينة بهم، فأخفوا كفرهم وادّعوا الإسلام، فإن منافقي اليوم يخافون من بطش الشعوب المسلمة بهم، وهي شعوب ما زالت تنبض بالإسلام وتتعصب له، مهما كان ظاهرها بعيدا عنه تشريعا وسلوكا.
إن منافقي اليوم يخافون من بطش الشعوب المسلمة بهم، وهي شعوب ما زالت تنبض بالإسلام وتتعصب له، مهما كان ظاهرها بعيدا عنه تشريعاً وسلوكاً
و( الصهاينة العرب ) هو مصطلح أطلقه المعاصرون على أولئك العرب الذين يساعدون (إسرائيل) بآرائهم ومواقفهم السياسية والفكرية، في صورة ليس لها إلا تفسير واحد، هو المصلحة والمنفعة التي جعلت أمثال هؤلاء يبيعون دينهم وأوطانهم لعصابة صهيونية أغرتهم بالمال وبغيره من أجل أن يقولوا ما يقولونه ويأتوا ما يأتونه.
رمزية المسجدين وإشارة لطيفة
في إشارة لطيفة لرمزية المسجدين الكريمين، الحرام والأقصى، قال البعض: إن المسجد الحرام يرمز في حياة الأمة إلى الإسلام، والمسجد الأقصى يرمز إلى حال المسلمين . وتلك إشارة_ في رأيي_ لطيفة وموفقة.
فالمسجد الحرام على مدار تاريخ الأمة حرٌّ عامرٌّ، وهي إشارة إلى الإسلام الدين القوي الذي لا يضعف مهما ضعفت دولته ومهما ضعف معتنقوه.
وإن بعض الناس ينقلون كلمة محرّفة عندما يقولون (الإسلام دين يمرض ولا يموت)، وصواب هذه الجملة كما قالها قائلها (أمة الإسلام أمة تمرض ولا تموت)، فالإسلام دين إلهي قوي لا يمرض ولا يعطب إلى يوم القيامة، أما المرض والعطب فيصيبان أمته، وهي أمة كتب الله لها الحياة إلى يوم القيامة، مهما بلغ مرضها وعطبها، وكتب لها العافية بعد المرض، والقوة بعد الضعف، والغلبة بعد الهزيمة.
والمسجد الأقصى هو الذي يشير ويرمز إلى حال المسلمين، فلما كان المسلمون أقوياء أعزاء خلّصوا المسجد الأقصى من أيدي الروم في عهد عمر بن الخطاب سنة 15هـ.
ولما أصبحوا ضعفاء وضربهم التفرق والشقاق، استولى الصليبيون على المسجد الأقصى والقدس في إبان الحروب الصليبية.
ثم عاد المسلمون متّحدين أقوياء، فحرروا المسجد الأقصى مرة أخرى على يد صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ.
ثم عادوا لفرقتهم وضعفهم فاستولى الصهاينة على المسجد الأقصى وقدسه، وظل الضعف والهوان إلى الآن، فظل المسجد الأقصى أسيرا رهينا، ينتظر إفاقة الأمة وعودتها لتحريره.