الحياة في هذا العمر فرصة واحدة لا تتكرر، وتكمن أهميتها وخطورتها أنها مزرعة للحياة الأخرى وممر العبور إليها، وميدان التنافس فيها أو عليها، فسعيك وجهدك وكل حركاتك وسكناتك في هذه الحياة إنما هو عائد إليك، بل أنت موقوف في يوم عظيم بين يدي ملك الملوك؛ لتحاسب ما كنت قد أخفيت أو أبديت.
ومن عظيم فضل الله علينا أن قدّر وخصص لنا في الزمان مواسم خير وطاعات، أجر العمل فيها يفوق أجره في سائر الأيام، تماماً كما تفضل علينا بذلك في المكان، إذ شاءت إرادة الله أن يكون ثمة أماكن وبقاع مقدسة الأجر فيها يفوق ما سواها.
فكان من مواسم الخير والبركة في الزمان شهر رمضان، افترضه الله علينا؛ ليكون لنا في العام كما الواحة في طريق سعينا في دروب الحياة، فكما الصلوات الخمس في اليوم والليلة، والجمعة إلى الجمعة نتطهر فيها من أدراننا، فكذلك شهر رمضان، يأتينا في العام مرة؛ لنتزود منه ونتخفف فيه من أثقال أنهكت كواهلنا ؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر) (رواه الترمذي)، ولو علم أحدنا بأن ضيفاً عزيزاً يعمد بيته ويقصد بابه لأعلن حالة الطوارئ، وتهلّل وابتهج، وبذل وأسرف في استقبال ضيفه على أتمّ وأكمل ما يكون، فكيف إذا كان هذا الضيف رمضان الخير! منحة الرحمة الإلهية للبشرية التي لا تنفك عن حاجتها لمحطات تنقية من ذنوبها، وشحذ هممها، والرقي بها من أوحال الطين إلى نفحة السماء، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرم) (رواه النسائي).
ولو تفكر القارئ الكريم بحال الصحابة رضوان الله عليهم وهم على ما هم عليه من قدر وأفضلية، فقد كانوا يستعدون له ويدعون أشهراً قبله بأن يبلغهم رمضان، حتى إذا أدركوه اغتنموا شرف أيامه ولياليه ما بين قائم وصائم وتالٍ للقرآن الكريم، حتى إذا غادرهم رفعوا أكفّ الضراعة أن يتقبل منهم صيامه وقيامه، فهذا حال السلف الصالح، فما عسى يكون حالنا؟ وقد فرطنا في جنب ربنا، والأمة تكاد تلفظ أنفاسها من تداعي وتكالب سائر الأمم عليها، والابتلاءات تحيط بها كما السوار في معصم اليد، فمن كان في وضع كوضعنا، وحال كحالنا، فإنه أحرى به أن ينيخ مطيته في باب ربه، ويلزم عتباته أن يبلغه رمضان لا فاقداً ولا مفقوداً أو محروماً .
غير أنّ الكثير منا تتغشاه الغفلة ليستقبل رمضان استقبالاً مادياً بحتاً، يركّز على غذاء الجسد دون أن يراعي الروح وثغراتها وجوعاتها، ولو تدبرنا حالنا لوجدنا الروح منا تعاني شدة الجوع والظمأ، وإن الاهتمام بسدّ رمق الجسد وترجيح كفته على رمق الروح وكفتها، والاهتمام بالشكليات المادية الصرفة، هو العلة في ما نعانيه من انتكاس وتدهور، وعلى جميع الجهات، فانصرافنا للأسواق والمبالغة في تجهيز ما لذّ وطاب من مأكولات ومشروبات، وإغراقنا في الجوانب المادية، هو الذي أشغلنا عن الالتفات للأمور الروحية ومتطلبات الروح، بل بذلك أغفلنا ما ينطوي عليه رمضان الخير من معانٍ وقيم تربوية، وأهداف وغايات ربانية سامية، تتجاوز مظاهر الجوع في النهار والشبع والترف في الليل، إذ ليس لله حاجة في جوعنا ولا ظمئنا، غير أن المقصد أسمى من ذلك بكثير، تلوّح ببعض أسراره الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: آية183].
إن الاهتمام بسدّ رمق الجسد وترجيح كفته على رمق الروح وكفتها، والاهتمام بالشكليات المادية الصرفة، هو العلة في ما نعانيه من انتكاس وتدهور، وعلى جميع الجهات
ورمضان شهر يجمع في ثناياه كثيراً من المدارس التي إن أحسنت استغلالها نهلت من ينابيعها، ففيه مدرسة الصبر على شهوتي البطن والفرج، وكلتاهما أساس الأدواء التي أصابت جسد الأمة، وما زالتا عثرات تعرقل المسير والرقي لكثير منا، وفي تحسين الخُلق والتعامل مع الأهل وعامة الناس، وفيه مدرسة التخلص من شح الأنفس وأثرتها، والالتفات لمعاني الأخوة والشعور بالآخرين، وإعطاؤهم جزءاً من أوقاتنا وأرواحنا، وإيثارهم وفق إمكانياتنا، ولو كان بتخصيص جزء لهم من دعائنا، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا الله له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه) (رواه أبو داود)، وهل يُعدم المعروف بين البشر من أهل وأحبة وخلان؟!
ولأنّ العمر فرصة لن تتكرر يجب اغتنامها، والمدّ في أجله منحة ربانية ونعمة إلهية تستحق الشكر، وبلوغ رمضان كنز لا يقدر بأي ثمن ، كان لزاماً على المسلم أن يستشعر فضل الله عليه، وجليل نعمه، ولو لم يكن في الوجود إلا نعمة بلوغ رمضان لما استطاع المرء أن يشكر الله عليها حق الشكر، فكيف إذن بنعمه سابغة علينا آناء الليل وأطراف النهار، وإليك بعض النصائح للتهيئة الروحية والقلبية بل والجسدية في استقبال شهر الرحمة والغفران:
1. الإقلاع والتوبة من الآن عن المعاصي والذنوب، وفتح صفحة جديدة وتأريخ ميلاد جديد لحياة جديدة في السير إلى الله.
2. الابتهاج والفرح بقدومه مقتفياً أثر نبيك الكريم، وهو يبشر أصحابه رضوان الله عليهم بشهر رمضان: (أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرم) (رواه النسائي).
3. الاستشعار بفضل رمضان وقيمته، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) (رواه الترمذي).
4. الحرص على اغتنام أوقاته بوضع خطة وبرنامج عملي متنوع، يجمع بين العبادة الجسدية والفكرية، تمكن المسلم من استثمار دقائقه وثوانيه في طاعة الله، بعيداً عن اللهو والبطالة.
5. تهيئة النفس لعبادة الصوم والقيام، بأن يبدأ المسلم برياضة نفسه على الصوم، كأن يصوم يوماً أو يومين في الأسبوع، أو الأيام البيض، ويقوم وقتاً يسيراً من الليل، حتى يتوصل للعبادة في رمضان بعبادة من جنسها، فيكون في ذلك مران لجسده وروحه.
6. ردّ الحقوق لأصحابها، وطلب المسامحة والعفو ممن قد سبق وأسأت إليه أو ظلمته.
7. احرص ألا يدخل رمضان إلا وتعهدت سلامة قلبك، فالعمر أقصر من أن نعبره بالأحقاد والضغائن.
احرص ألا يدخل رمضان إلا وتعهدت سلامة قلبك، فالعمر أقصر من أن نعبره بالأحقاد والضغائن
8. استحضر نعم الله الكثيرة عليك وأنت ترفل فيها، معافى في بدنك، آمناً في سربك، وقد شرّدت الحروب والويلات الكثير من أبناء جنسك، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، لا مأوى لهم غير خيمة لهي أوهن من أن تظلهم من حر الصيف أو تقيهم برد الشتاء، وتذكّر أنه بالشكر تدوم النعم؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [سورة إبراهيم: آية7].
9. وأخيراً، لا تغفل عن الدعاء لرفقاء أو أحباء جمعتكم في خوالي الأزمان ليالي رمضان من مجالس ذكر وتلاوة واعتكاف، وقد غيبوا اليوم، إما في القبور أو السجون!
اللهم بلغنا رمضان وقد كتبتنا من المخلِصين المخلَصين، وجعلتنا من عبادك المقبولين، وفرّج اللهم همّ المهمومين وفك أسر المأسورين.