لكل زمن مرت به الأمة المسلمة مشكلاته، والتي من المفترض أن تواجهها آنياً، وإلا فالنتيجة هي ما يحدث اليوم من حالة انتهاك تاريخي لكل ما يمس عقيدة المسلمين وحضارتهم وثقافتهم وهويتهم، وهي مشابهة تماماً لفترات الانحطاط والسقوط الحضاري التي مرت بها الأمة عبر تاريخها الطويل، فينتج جيل لا يقدر قيمة الوقت، ولا يستطيع صياغة حاضر يليق بما يملك من مقومات التجدد والقدرة على الاستمرار، وتستمر حالة الاغتراب والضعف إلى أن يتمّ تشكيل وعي جديد يقوم عليه قائد تربى في قلب المحنة بشكل مختلف، أو عالم من علماء الأمة التي لا تجف منابعها، فيجدد لها دينها، ويبعث الله على يديه بعثاً جديداً يزيح الوهن وينفض عنه تراب الرضوخ والتبعية، فتنهض الأمة من جديد على كل المستويات.
والأمة المسلمة تتميز بخصائص فريدة، تميزها عن أي أمة أخرى، وأي حضارة أخرى، فالمعلوم أنه حين تخبو حضارة ما، وتستنفذ عوامل استمرارها فإنها تموت إلى غير رجعة، وكم من حضارات ما زالت آثارها شاخصة إلى اليوم، غير أنها أصبحت ذكرى تاريخية نستنبط منها العبر والدروس التاريخية، وأهم أحد تلك العوامل التي تبقي الدول قائمة هو إقامة العدالة الإنسانية، حتى ولو لم تكن مستندة إلى شريعة سماوية.
أما الحضارة الإسلامية التي أتت مستندة على معين متجدد، ومعجزة ممتدة إلى قيام الساعة، فكانت الحضارة الوحيدة القابلة للاستمرار إلى نهاية الوجود الإنساني ، فمعجزتها هو الإنسان ذاته، وقد أعطاه الله القدرة على التمييز، ووهبه الحرية المطلقة للاختيار الحر بعد أن بيّن له السبيل، قال تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 7]، فالله خلق، ثم علَّم، ثم بيَّن، ثم ترك حرية الاختيار، وعلى الإنسان وحده أن يختار بكامل إرادته بعد أن ضمن له حماية تلك الحرية بدستور يضمن حماية الفرد من ظلم المجموع، وحماية المجتمع من ظلم الفرد، شرط أن يكون في النهاية مسؤولاً عنها مسؤولية كاملة.ومن أهم قضايا المسلمين المعاصرة هي قضية الانتهاك الإنساني المصاحب عادة لفترات الضعف الحضاري، والمصاحب كذلك لافتقاد عنصر العدل الذي تحميه قوة عقائدية سماوية تضمن تحقيقه دون تحيز أو عنصرية.
الحرية كشرط للتغيير والإصلاح
وتلك الإشكالية التي تعانيها الأمة المسلمة اليوم -والتي حولتها لأمة متناحرة داخلياً، لاجئة خارجياً- هي نتاج البعد الأهم في تحقيق شرط التغيير من الوهن إلى القوة المطلوبة لضمان تحقيق الكرامة الإنسانية بين البشر، ذلك البعد هو "الحرية".
يقول الله تبارك وتعالى في قضية التغيير في سورة الرعد: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، فالتغيير إرادة حرة نابعة من قلب إنسان قرّر أن يتغير ويتبدل ليصل لمقام أعلى وأعز مما هو عليه، وبحرية كاملة دون توجيه أو إجبار ، فهو حين يقرر أن يتغير على مستوى الفرد، ثم على مستوى المجموع، في أجواء حرة، حينها فقط يهيئ له الله ما يساعده على تجاوز أزماته الوقتية، وتخطي معاناته الحضارية، فالإصلاح والتغيير إرادة وفعل ذاتيان لا يمكن فرضهما بقوة سلاح، أو برغبة حاكم، يتمحور دور الحاكم أو القائد فيها على ضمانة أجواء الحرية اللازمة لحماية عملية الإصلاح الداخلي.
الإصلاح والتغيير إرادة وفعل ذاتيان لا يمكن فرضهما بقوة سلاح، أو برغبة حاكم، يتمحور دور الحاكم أو القائد فيها على ضمانة أجواء الحرية اللازمة لحماية عملية الإصلاح الداخلي
أما حالة المظلومية التي تعانيها الأمة فهي كما أسلفنا نتاج الخراب الداخلي، فالكيل بمكيالين بقبول تقسيم البشر لأبيض وأسود، غني وفقير، عربي وأوروبي، ثم إقرار أن الحرية التي تجوز هناك لا تجوز هنا، وأن مقاييس العدالة هناك ليست هي مقاييسها هنا، فهي بقايا استعباد واستبداد استعماري لا يقبله منطق إنساني، فضلاً عن عقلية تحمل على عاتقها مهمة الشهادة على سائر الأمم، إن هي استقامت وأقامت حضارتها على عمَد مناسبة وأسس صحيحة.
ومن هنا ننفذ لإشكالية أخرى، فالحرية وحدها لا تكفي لتحقيق عملية التغيير الإصلاحي المنشود لاستعادة هيبة الشخصية المسلمة ، وإسناد الدور المنوط بها القيام به لتحقيق السعادة والأمان للبشرية، تلك النقطة هي الوحدة، وحدة الصف، ووحدة الإرادة، ووحدة الهدف، ووحدة القرار، ففي الوقت الذي تساعد فيه كافة المقوّمات الحضارية على التوجه لتلك الوحدة وبقوة، فاللغة المشتركة والعقيدة المتجذرة، ووحدة التاريخ والمصير، كل ذلك قد تمّ تعطيله بفعل فاعل متعمَّد؛ لتمرير عملية الانقسام التاريخي الغير مسبوق.
فالمظلومية الخارجية هي كذلك تابع للمظلومية الداخلية، ليكون لزاماً علينا للخروج من ذلك الفصام الأسود بين الواقع والمقدرات أن نأخذ على يد من يقف حائلاً دون الحرية أولاً، ثم وحدتنا العربية والإسلامية ثانياً، وذلك على ثوابت واضحة ومستنيرة بقواعد لا تتعارض مع هويتنا وثقافتنا وتاريخنا وحاضرنا وطبيعتنا الأصيلة.
تحقيق العالمية والشهود الحضاري
لم يعترف العالم يوماً بالضعفاء، ولم تضعهم البشرية في اعتبارها أو تجعل لهم قيمة حضارية ، فالعدالة الموسومة بقوانين البشر منقوصة ولها معايير لا تمت للأخلاق بصلة، يصح أن تشفق عليهم في شعارات مكتوبة تصلح للتنظير بين الفلاسفة والكُتّاب والمفكرين، لكنها لا تخرج عن كونها مجرد شعارات يستخدمها القوي لفرض المزيد من الهيمنة، يستطيع من خلالها الاستفادة أكثر من مقدرات المستضعفين، والذي يحرص على إيهامهم بفقرهم وعدم قدرتهم على استيعاب أطر الحداثة والنهوض.احتفظت البشرية بتلك القواعد وفرضتها حتى أتى الإسلام بمفهوم جديد، مفهوم لم تعرفه اللاهوتية الكنسية والمعابد اليهودية التي حرّمت على بني إسرائيل الكثير من متاع الدنيا، أتى الإسلام بمفهوم إدارة الدنيا بدستور سماوي متوازن بين احتياجات الفرد وحق المجتمع، بين المسلم والآخر، بين المجتمع والدولة المسلمة، والمجتمعات والدول الأخرى، في علاقة تناظرية يحكمها العدل بقوانين الرحمة، وتحرسها القوة اللازمة لتحقيق تلك المثل والقيم، لم تقف تعاليم الدين الجديد عند حدود الكتب كتعاليم المدينة الفاضلة التي سعى لها الفلاسفة، وعجز السياسيون عن تحقيقها، وإنما تحولت لدولة امتدت شرقاً وغرباً، وما زالت تحمل بذور الاستمرار لتنمو من جديد، وتنبت حضارة جديدة تفتقدها الإنسانية اليوم، حضارة تنبني على محورين هما أساس البناء الإنساني الصحيح، (الروح والمادة).
لم تقف تعاليم الإسلام عند حدود الكتب كتعاليم المدينة الفاضلة التي سعى لها الفلاسفة، وعجز السياسيون عن تحقيقها، وإنما تحولت لدولة امتدت شرقاً وغرباً، وما زالت تحمل بذور الاستمرار لتنمو من جديد، وتنبت حضارة جديدة تفتقدها الإنسانية اليوم
والمسلم اليوم غائب عن العالمية، بل هو منتهك فيها، ذائب في حضارتها، مغيب عن حاضره، فكيف يحقق الشهادة التي جعل من أجلها؟ وهل تجوز شهادة الغائب على الحاضر؟
هنا ندرك أن المهمة أصبحت مضاعفة، خاصة أن الحالة العالمية تستلزم التغيير السريع نظراً لغياب عنصر العدالة بين البشر، فعلى المسلمين اليوم أن يحققوا معنى "الوسطية" اللازمة لعملية الشهود الحضاري، أو الحضور في المشهد العالمي، والله عز وجل يحدد تلك الرسالة في كلمات معدودة: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة،آية:143].
فالوسطية شرط الشهادة، والشهادة شرطها الخيرية والتي تتحقق بطريق واحد: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران،آية:110].
وبما أن المسلم إنسان عالمي، فنجد أن القرآن اهتمّ بالشأن العالمي قبل أن يهتم بالشأن الإيماني الخاص، الشأن العالمي العام: "تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر"، ثم الشأن الخاص: "وتؤمنون بالله"، فهو مجرد مبلغ ليس عليه إجبار الناس لاتباع دعوته، عليه تحقيق المعروف وضمان استمراره، ومنع المنكر وضمان القضاء عليه، ثم من يتبع فليتبع، ومن أعرض فهو وشأنه دون إكراه.
والإسلام وحده دون غيره من الشرائع أو الدساتير هو الذي يحفظ على صاحبه ذاتيته، وفي ذات الوقت يحفظ للآخر هويته ، فقد أبقى الفاتحون على مدى التاريخ على المعابد ورجال الدين، ولم يحارب إلا المقاتلين، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بعقد التحالفات مع المشركين واليهود وغيرهم حين صار للإسلام دولة في المدينة، لها قوانين وجيش وحياة مدنية منظمة تشبه لحد كبير أنظمة الدول اليوم.
نخلص مما سبق إلى أن الأمة ستظل في تلك الحالة من الوهن والاستضعاف والدونية العالمية حتى تنتبه من تلك الغفوة التي طالت.
عليها أن تنتزع حريتها ممن يقفون حائلاً دون تحقيق مهمتها، عليها أن تتوقف عن النزاع الداخلي وتقوي شوكتها، عليها أن تتيح فرصة لعلمائها ومفكريها ومجدديها أن يقوموا بدورهم في إحياء جيل جديد يضع قواعد حضارة جديدة يحتاجها العالم قبل أن تستبدل بأخرى، ثم لا تكون مثلها.