ورد في القرآن الكريم وفي الأثر الكثير من المقولات التي تتكلم عن الموتى الأحياء، أو الأحياء الأموات، إن صحَّ التعبير.
والمقصود بمصطلح الأحياء الأموات هنا، هم الأحياء اسمًا من البشر، ويدبُّون على وجه الأرض، بينما في الحقيقة أموات، بمعنىً ما من المعاني.
ومن بين هذه المعاني التي وردت في القرآن الكريم في هذا الاتجاه، قضية الإيمان؛ حيث الإنسان المؤمن هو الإنسان الحي، والكافر –والعياذ بالله– هو الميت، ولو كان يدب على وجه البسيطة.
فيقول اللهُ تعالى مما يعكس هذا المعنى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سُورة "الأنعام"- الآية: 122].
وفي حقيقة الأمر فإن هناك مسألة فكرية ذات صلة بقضية الإيمان، وهي قضية العلم وإعمال الإنسان لعقله في الأمور كافة.
والقضيتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض؛ حيث الإيمان لا يمكن أن يتم إلا عن علم وعن عقل؛ حيث العقل هو أحد مناطَيْ التكليف مع الحرية.
ومن بين المقولات المهمة التي كان الناس يتداولونها في الماضي، في هذا الصدد: إنه لا يموت الإنسان إلا عندما يكُفّ عن التعلُّم .
ووفق هذا المبدأ فإن شريحة كبيرة من أبناء المجتمعات العربية والمسلمة، هي في عداد الأموات؛ حيث لم يعد للعلم والفهم قيمة في حياة الإنسان.
وهذا الأمر ليس من ترف القول، أو من نوعية القضايا التي يطلقون عليها في أوساط المثقفين العرب، مسمَّى "قضايا الإنتلجنسيا"، والتي يعنون بها القضايا التي تهتم بها فئة المثقفين والكُتَّاب القابعين في برج عاج، منفصلين عن قضايا الجماهير الحقيقية.
فعلى أبسط تقدير، فإن هذه الحالة من الكَفِّ عن التعلُّم، وإهمال قيمة العقل والعلم، قادت إلى أن تسود الأفكار الهدَّامة، مثل الإلحاد، بل وانحراف بوصلة بعض أصحاب المبدأ الإسلامي، فظهرت الأفكار المتطرفة التي تحولت إلى عنف حصد أرواح مسلمين.
الكَفِّ عن التعلُّم، وإهمال قيمة العقل والعلم، قادا إلى أن تسود الأفكار الهدَّامة، مثل الإلحاد، بل وانحراف بوصلة بعض أصحاب المبدأ الإسلامي، فظهرت الأفكار المتطرفة التي تحولت إلى عنف حصد أرواح مسلمين
ولو أن هذه القضية من نافل القول، أو من تَرَف اهتمامات أهل الثقافة والفكر؛ فإنه لم نكن نقف على حقيقة موضوعية مهمة في القرآن الكريم.
فإحصائيًّا وبشكل موضوعي، فإن أكثر صفات تكلَّم عنها القرآن الكريم بالمذمَّة عند البشر هي الجهل، وما اتصل بذلك من ضيق في الأفق وضعف في التفكير .
وهذه الأمور هي أساس الجرائم الكبرى التي يرتكبها الإنسان في حق نفسه، ويظلمها بها، مثل العصيان والكِبْر والعناد، وصولاً إلى الضلال، وحتى الكفر والعياذ بالله.
وهذا كذلك أساس الشر والسوء في سلوك الإنسان... فيقول تعالى في سُورة "الشُّعراء" على لسان نبيه موسى (عليه السلام)، عندما كان يحاجج فرعون، وذكَّره هذا الأخير بخطيئة القتل التي ارتكبها موسى (عليه السلام) قبلاً، فجاء في القرآن الكريم على لسان نبي الله: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}.
والضلال -هنا- هو لفظ يكتنفه التعدد في المعنى، فهو قد يعني ضعف الإيمان، أو ضعف الإدراك، وكذلك عدم قدرة الإنسان على عقل الأمور؛ فيتركب الخطيئة.
وذات المعنى تكرر في القرآن الكريم، ولكن في اتجاه آخر أكثر وطأة في التعبير؛ حيث إن عدم إعمال الإنسان لعقله، وعدم إعماله لجوارحه التي خلقها الله تعالى له لأجل الفهم، ولأجل العلم والإدراك اللذَيْن يقودانه إلى الإيمان، فيكون مثل الدابة أو البهيمة التي خلقها اللهُ تعالى من دون عقل أو تمييز، وهو مما يقود الإنسان إلى الهلاك، ممثلاً في عذاب اللهِ عز وجل في الآخرة.
ومن بين هذه المواضع قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سُورة "الأعراف"– الآية: 179]، ويقول تعالى أيضًا في ذات الاتجاه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [سُورة "الفرقان"– الآية: 44].
والجهل اقترن كذلك في القرآن الكريم بمعانٍ أخرى شديدة السوء؛ حيث جاء قرينًا للظلم، يقول سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [سُورة "الأحزاب"- الآية: 72].
والظلم في القرآن الكريم -وفي منظومتنا المفاهيمية والقيمية كمسلمين- لا يقف عند المعنى القريب الذي قد يتبادر إلى الذهن عند ذكر لفظة "الظلم"؛ حيث هو أوسع باب من أبواب الخروج عن الصراط المستقيم؛ حيث الشرك، الذي هو أعظم الذنوب والكبائر، بل والجرائم، وهو أعلى درجات الظلم.
فيقول الله سبحانه على لسان عبده لقمان (عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سُورة "لُقْمان"– الآية: 13]، وهذا الظلم العظيم لا يأتي إلا من خلال الجهل.
في المقابل، وعندما ذَكَر اللهُ تعالى عبده لقمان (عليه السلام)، وما كان عليه من إيمان؛ فقد قرنه -عز وجل- وجعله صنو الحكمة، والحكمة هي أعلى درجات الفهم الذي يبدأ بالبيان، ثم المعلومة، ثم المعرفة؛ فالحكمة، وفق السُّلَّم المعروف لدى العاملين في حقل المعلومات، وجَعَل الحكمة –التي هي الصورة الأعلى من صور إعمال الإنسان لعقله، وحصده للعلم –علامة على طريق الهداية، ومعرفة الخالق، ومن بين صور معرفتنا به هو شكرنا إياه عز وجل على ما أعطى ومنح، وحتى على ما منع عنا ما فيه الشر. يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [سُورة "لقمان"– الآية: 12].
ويكفي في هذا الإطار التأكيد على أن تحصيل الإنسان المستمر للعلم إنما هو سبيله لأهم شيء، وهو معرفته بربه عز وجل.
ولا عذر لك؛ حيث إن طرائق كسب العلم في عصرنا الراهن باتت واسعة للغاية، وتحصيل الفهم والوصول إلى الحقيقة أصبح ميسورًا للغاية، فنحن نعيش في الأصل، ومنذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان، عصر الثورة الصناعية الثالثة، والثورة الصناعية الرابعة، وكلتاهما قائم على الاستخدام المكثَّف للمعلومات، وللوسائط الرقمية.