- من مفاتيح الصلاح التفرقة بين الحاجة والأهمية:
فبعد الاقتناع العقلي قد تقر بصحة هذا المنهج للتغيير أو ذاك، لكنه إقرار كإقرارك بأهمية اللبن وعزوفك عن شرب كوب كل صباح مثلا. لماذا؟ لأنك لم تستشعر "الحاجة". هنالك فرق بين الاقتناع بأهمية أمر أو صحته، وهذا المدخل العقلي؛ واستشعار حاجة المرء إليه، وهذا المدخل القلبي أو النفسي . فأنت لا تأكل مثلا لأن "الطعام مفيد لجسم الإنسان" كما تعلمنا كتب العلوم، بل لأنك حين تجوع لا تملك إلا أن تستجيب لتلك الحاجة.
فلنقل مثلا إنك قرأت عن مهارات التواصل الفعال، أو كيف تحسّن من طباعك، أو خطوات لتقليل حدة غضبك؛ لن تستطيع حقا أن تفيد بما قرأت إلا أن تكون مستشعراً لحاجتك بتهذيب أخلاقك، فتكون كالمريض الباحث عن دواء ومستعد لتجربة كل ما يقدم له مما اقتنع به، حتى ينفعه أحدها. أما أن تقرأ أو تتصفح لأن الموضوع مهم أو الأمر ممتع أو القصص تحفيزية، فسينتهي بك المطاف في فورة مؤقتة لا تلبث أن تزول، فتكون صفات الحلم والصبر وطيب الكلام وكظم الغيظ وخفض الصوت.. إلخ، مجرد عوارض طارئة في شخصيتك، لا أخلاقاً تخلقت بها حتى صارت لك طبعاً.
والأخطر من ذلك أن الإغراق في الكلام وترديد ما اقتنعت به عقلياً، بغير أن يوازيه عمل حقيقي، قد يعطيك شعوراً زائفاً بإنجازه ويعفيك من الشعور بالذنب لعدم تطبيقه حقيقة، فانتبه لذلك. إن العاملين في صمت أعمالهم هي من تتحدث عنهم لاحقاً، وبأثر قوي راسخ، وبغير تطلّع واستشراف منهم. أما حين تكون أنت المتحدث بلسانك كثيراً، ففتش عن عملك وانظر في أسباب صمته، لعله أضعف من أن ينطق!
الإغراق في الكلام وترديد ما اقتنعت به عقليا، بغير أن يوازيه عمل حقيقي، قد يعطيك شعورا زائفا بإنجازه ويعفيك من الشعور بالذنب لعدم تطبيقه حقيقة
وليس خير في إشعارك بالحاجة من مطالعة فضائل الشهور والأيام لاغتنام فرصتها، وفضائل الأعمال وعواقبها في الميزان الأخروي، لأن التغيير الحق لا يكون إلا ابتغاء وجه الله فيعينك عليه الله . وفي الأثر عن أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: "الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ".
-ومن المفاتيح: صدق الهم
تأمل في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهمَّ همًّا واحدًا، هم المعاد، كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومن تشعَّبَتْه الهمومُ لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أوديةِ الدنيا هلَك" [رواه ابن ماجه]، وفي حديث آخر "من كانت الآخرةُ همَّه جعل اللهُ غناه في قلبِه، وجمع له شملَه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدُّنيا همَّه جعل اللهُ فقرَه بين عينَيْه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما قُدِّر له" [رواه الترمذي].
لقد أوتي المصطفى صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وما ينطق عن الهوى، فتأمل – رعاك الله - في استعمال لفظة "الهم" في تلك المواضع، بدلا من اختيار أي أفعال أخرى أكثر "عملية".
إن الهَم محله القلب، ويعني الاشتغال بأمر فكراً وتقليباً في خاطرك. فالكثيرون في غمرة حماسهم لتغيير حياتهم وأنماطهم وطرائقهم، يقفزون للخطط العملية ويستبقون الأفعال، ويستصغرون أو لا يلتفتون لبذرة الهم وأهمية الانشغال النفسي به حقا. لأن الاشتغال بالأمر فكراً وقلباً، هو ما سيجعله بالضرورة ينعكس فعلاً، ومن هنا يكون طبعاً وعادة لا تكلفاً لمرة أو اثنتين؛ ويكفي أن تذكر أوقات الامتحان حين تصير الدراسة هما، أو وقت مرض عزيز عليك – كزوج او ابن - حتى صار أمره همك، هل يمكن أن تنسى الدراسة في الأولى أو الدعاء بالشفاء للمريض في الثانية؟ هل ستحتاج لتحفيز خارجي أو تذكرة بين الحين والحين؟ أم الهم حين تمكّن من قلبك حقا، كان هو الباعث والوقود للاشتغال به والعمل له؟
الهم ليس "مجرد" خاطرة تخطر وتجيء، وإنما شغل شاغل تمكّن من قلبك
وقد تتعجب أيكون مجرد "الهم" هو المدخل لغنى القلب وسكينة النفس وطواعية الدنيا؟ نعم، لأنه ليس "مجرد" خاطرة تخطر وتجيء، وإنما شغل شاغل تمكّن من قلبك، فعنه تصدر أفعالك وحركاتك وكلامك وطباعك كلها. وهذا المفتاح القلبي هو أمر يملكه كل ذي قلب، فمن رحمة الله وفضله أن جعل أساس التعامل معه هو مما يملكه كل فرد ولا سلطان لأحد عليه من خارجه. تأمل في قوله تعالى: {..إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم..} [الأنفال: 70]، {..ومن يؤمن بالله يهد قلبه..}[التغابن:11] وكلنا يفهم ويستوعب الكلام المجرد، لكن الفهم غير الهم، واستيعاب أمر غير الاشتغال به.
وإننا لو تأملنا في أذكار الأحوال، لوجدنا لكل حال في كل آنٍ من يومنا ذكرا: قبل النوم وعند التقلب في النوم وبعد اليقظة، بدء الأكل وإنهاؤه، واجتماع الزوج بزوجته واستقبال المولود وتوديع المفقود، بل ودخول الخلاء والخروج منه... إلخ. وما ذلك إلا لأن الأصل أن حياتنا كلها في الله تعالى وأننا دائما على اتصال به سبحانه، وليس فقط تذكره في أجزاء منها وقت الصلاة والقرآن وحلول المصائب! ومن لا يكن همه أمر الله في كل حال، لن تغني عنه نيات مجتزأة وتكلف صور أفعال لا يفقه القلب مقصدها ولا يشهد لها أثرا .
ولو تأملت المفاتيح السابقة كلها، وجدت أن جذورها في النفس والقلب، فصلاح هذه المضغة وتقويم همومها وخواطرها، هو مفتاح سداد الطريق ورشاد القرارات بتوفيق الرحمن.