لتحدث تغييراً دائماً في نهج حياتك على وجه العموم أو في التعامل مع أمر معين على وجه الخصوص، بحيث يصير ذلك التغيير طبعاً راسخاً، لا بد من معرفة دوافعك لفعل ما تفعل، لأن ما يلبي فيك حاجة سيظل قابلا للاستمرار، ما لم تستغن عن تلك الحاجة بتعديل فهمك وتصورك، أو تهتم بتلبيتها بطرق أفضل . وإلا تقع في دائرة مفرغة من التعارك مع العَرَض دون أن تقضي على منشأ المرض.
مثال ذلك: الشخص الشكّاء، باعثه في الحقيقة ليس الهم الذي يشكو منه، بل حاجة للاهتمام ورغبة في جذب الانتباه؛ ما لم يتم التعامل مع تلك الحاجة وتوجيهها واحتواؤها بصورة سويّة، عبثا توجه له نصائح القوة والصبر على الصّعاب وتقليل التذمر.
ومثال آخر: الأخ الأكبر الذي يَتنمّر على أخيه الأصغر، لن يكفي أن يُعطى نصائح في الأخلاق والأخوة والرحمة، إذا كان سلوكه ناشئاً عن اعتقاد بتفضيل والديه لأخيه، بسبب كثرة المقارنة بينهما لصالح الأصغر أو توجيه غالب عنايتهما له. الحل الحقيقي يكون في تغيير جذور هذا الاعتقاد بالكف عن المقارنة والعدل في توزيع الاهتمام والثناء والنقد.
واليقظة للدافع من جهة أخرى، تعني تعاهد نيتك وبواعث أعمالك، فإن لكل عمل ضميره، وضمير العمل هو النية والإرادة الباطنة التي توجهه. وإن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يقل "وإنما لكل امرئ ما عمل"، ولكن "لكل امرئ ما نوى". وكثير من الأعمال أفسدتها نياتها فكأنها لم تكن شيئاً، فلا تغني صورة عمل صالح عن نية ليست كذلك، لكن النية الصالحة يمكن أن تقوم مقام العمل الصالح حين يحول بينك وبين أدائه حائل وقد كنت صادقا في عزمك عليه.
وإن أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة شهيد وعالم ومتصدّق! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنّ أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِىءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ" [مسلم].
وتأمل – رعاك الله - في قصة الثلاثة الذين أغلقت عليهم صخرة الغار: عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ [أسقي] قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا [شرابهما من ماء أو لبن] فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ، عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" [البخاري].
ابتغاء وجه الله تعالى هو الموجّه السوي لدفة مركبك في الحياة، وقتها فقط تأمن عاتيات الرياح والظروف، فلا يسوؤك نكران جاحد، ولا تتلهف على رضا مخلوق
إنهم لم يتوسلوا بظواهر أعمالهم التي تبدو صغيرة وغير ذات بال، بل توسلوا بالدوافع الباطنة والنيات الكامنة وراءها: "إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك". ابتغاء وجه الله تعالى هو الموجّه السوي لدفة مركبك في الحياة، وقتها فقط تأمن عاتيات الرياح والظروف، فلا يسوؤك نكران جاحد، ولا تتلهف على رضا مخلوق، ولا تتحسر على فوات رزق لو كان لك لأتاك، ولا يزعجك أن يسيء من حولك طالما أحسنتَ أنتَ وذكّرتهم في الطريق، ولا تجزع لكل نازلة والأصل في الحياة أنها طُبِعَت على كَدَر. وبالجملة تطمئن نفسك وتسكُن للتعامل مع من ليس غير وجهه يبقى، فلا تكون ردة فعل لكل متغير ومتقلبا عند كل متقلب.
وإن دواخلنا هي التي تكشف بجلاء عن جوهرنا وحقيقة نفوسنا ، وتتجلى هذه الحقيقة أكثر ما تتجلى في أوقات الفراغ، وأحاديث النفس، والاختيارات الحرة تماما من أي ضغوط حين تتاح لأحدنا. يقول د. مصطفى محمود: "كل لحظة تطرح على الإنسان موقفا وتتطلب منه اختيارا بين بديلات. وهو في كل اختيار يكشف عن معدن نفسه ونوعية مرتبته ومنزلته.. دون أن يدري".
والنصيحة النبوية في هذا، أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خطب ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: "وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ" [أحمد].
حمد الناس وثناؤهم بعد العمل، بغير استشرافك وتطلعك لذلك أثناء العمل، فهو من عاجل بشرى المؤمن
وأما ما يكون من حمد الناس وثنائهم بعد العمل، بغير استشرافك وتطلعك لذلك أثناء العمل، فهو من عاجل بشرى المؤمن، كما في الحديث: قيل لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخيرِ، ويَحمدُه [يحبه] الناسُ عليه؟ قال " تلك عاجلُ بُشرى المؤمنِ"، وقرأ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّاﱠ} [مريم: 96].
قال النووي رحمه الله في الشرح: "هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ، هِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ وَمَحَبَّته لَهُ، فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيث، ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض [أي سعي وتلهف] مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ، وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم". وليس من الرياء أن يُسَرَّ الإنسان بفعل الطاعة ويرتاح لعمل الخير ويأنس به ، لأن ذلك من دلالات الإيمان: "من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن" [الترمذي].