الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن شهر رمضان المبارك من الهدايا الربانية لعباده، بما يحمله من خير للعباد، وعلى رأسها اكتساب المؤمنين حالة الربانية القلبية والسلوكية، إن هم أحيوا في حياتهم أبعاد التقوى قيماً وممارساتٍ، كما بينها سيدنا علي رضي الله تعالى عنه بقوله: (الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
فالتقوى هي المقصد الجلي والأساس لعبادة الصوم ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِب عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].لقد شرع الله تعالى لتحقيق هذا الهدف (التقوى) عبادة الصوم، والتي هي الامتناع عن الطعام والشراب، والمحرمات، إنه تدبير يضبط النفس ويدربها على التوزان في التعامل مع مطالب الحياة، فلا تكون أسيرة الرغبات الجاذبة، ولا هي متعالية عن الحاجات الملحة، ولا هي تنشغل بواجبات الأعمال عن الله تعالى واستحضار عظمته، ولا هي تنشغل بعبادة الله تعالى عن أداء حقوق العباد.
وقد علمنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف يكون البرنامج الرمضاني الفاعل، الذي يجمع بين الإقبال على العبادة من ناحية، وضبط الحال القلبي والممارسات الحياتية قبل العباد من ناحية أخرى، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الإنفاق فهو أجود الناس، وخاصة في شهر رمضان. وكان يكثر من تلاوة القرآن والصلاة والذكر وقيام الليل، وكان يعتكف في مسجده في العشر الأواخر من رمضان، ويزداد فيها عبادة وطاعة لربه سبحانه وتعالى.
ولكنه في المقابل كان يحذر أصحابه من السلوكيات التي تخالف مقاصد الصوم بقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَ طَعَامَهُ وَشَرَابَه) (رواه البخاري).
فكأني بحبيبنا محمد صلى الله عليه سلم يقول لنا: السير إلى الله تعالى إقبال قلبي ذكراً وعبادة، واستقامة سلوكية وفق شرعه، وتجاه عباده. ورضي الله عن سيدنا عمر بن عبدالعزيز الذي جلّى هذا المعنى بقوله: (ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير).
ورغم وضوح هذا المنهج، إلا أن ما يمارسه غالب المسلمين، من تغليب الجانب الشعائري، على حساب التقوى قيمًا وسلوكًا، ويتجلى ذلك تقصيراً في حق العائلة، وخللاً في أداء الأمانات، وإيغالاً في حرمات المسلمين غيبة وتجريحاً وإيذاءً، وخروجاً عن سنن العدل وموازينه. وههنا نسأل: أي أثر للتقوى يتحقق في ظل كل ممارسات الزور التي يجترحها المسلم؟! فلا يجوز التترس بصورة الصوم امتناعاً عن الطعام والشراب، مع غفلة مطبقة عن مقاصده ، يقول عليه الصلاة والسلام: (أَلا كُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالأمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاع وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاع عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاع عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (رواه البخاري).
ويبقى السؤال المرجعي مطروحا: كيف نحقق مقصد التقوى؟ هل يكون ذلك بصيام النهار وقيام الليل، وكثرة التنفل، من صلاة وذكر وكثرة الختمات القرآنية، ولو مع التجرؤ على حقوق العباد!!
إن التقوى تتحق بأن نعيش أبعاد الصوم ونفحاته مستحضرين قول الله تعالى في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ ، فَإنه لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَع شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي) (رواه مسلم).أي أن نصوم وحالنا الشعوري أننا مع الله تعالى، فكراً ومشاعر وسلوكاً، نقيس كل نفس وكل كلمة وكل سلوك بما يحبه الله تعالى، فصلاتنا يعقبها مزيد من البعد عن الفحشاء والمنكر، و ذكرنا يجعلنا نستحضر عظمة ربنا جل وعلا، وتلاوتنا لكتابه بتدبر تجعلنا نستحضر الآخرة وسلوك الاستقامة، طلبا للفوز بالجنة.
إنه برنامج بسيط يجمع بين صلاة الجماعة بخشوع، وتلاوة قرآنية فيها تدبر مهما كانت، وتنفل لا يكون على حساب واجباتنا وما استرعانا الله تعالى عليه، مهما كان بسيطاً، يظلل ذلك رقابة لنظر الله تعالى إلى قلوبنا ومقاصدنا واستقامتنا في السر والعلن.
فالبرنامج الرمضاني الذي نقترحه:
أولا: الصوم المقترن بحسن الخلق مع العباد.
وثانيا: الصلاة في جماعة، ولنحرص على الفجر والعشاء في المسجد.
وثالثا: أن نحافظ على صلاة الضحى وصلاة الوتر، والنوافل الرواتب وأذكار بعد الصلاة.
ورابعاً: قراءة ورد قرآني يومي بفهم وتدبر.
وخامساً: التنويع بين صلة الأرحام والصدقات والذكر وفق الوسع والطاقة.
وأخيراً أن نتعلم من مدرسة الصوم كيف نعيش مرتبة الإحسان، أن تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك، بحيث يتجلى ذلك صوناً لحقوق العباد وتجنباً للخوض في حرماتهم وأعراضهم.
نسأل الله تعالى السداد، والرشاد والقبول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.