من بين أهم الأمور التي ينبغي أن تحكم العمل الدعوي، والقائمين عليه، هي مسألة كيفية التعامل وفق مقتضى الواقع.
وهذا الأمر قانون عمراني مهم قد لا يكون محل إدراك لدى الكثيرين من العاملين في حقل العمل الإسلامي، ولكنه واضح شديد الوضوح في النموذج التطبيقي الأساسي الذي يجب على كل مسلم يعمل في مجال الدعوة ومجالات العمل الإسلامي الأخرى أن يلتزم به، وهو نموذج السيرة النبوية، قبل وأثناء سنوات البعثة.
فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما كان يتحرك في كل موقف، وفي كل مرحلة من مراحل الدعوة؛ كان يلتزم بما يفرضه الأمر الواقع من قواعد، حتى يمتلك عناصر القوة اللازمة لتغييره إذا كان مخالفاً لمتطلبات انتشار الدين الحنيف وشريعته.
عندما كان الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يتحرك في كل موقف، وفي كل مرحلة من مراحل الدعوة؛ كان يلتزم بما يفرضه الأمر الواقع من قواعد، حتى يمتلك عناصر القوة اللازمة لتغييره
فعلى سبيل المثال؛ فعند عودته عليه الصلاة والسلام، من الطائف، بعد ما لاقاه من أذى ثقيف، وشجَّعت تلك "الهزيمة" كما رآها سفهاء القوم من المشركين في مكة المكرَّمة، على ممارسة المزيد من الأذى في حق الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، فكانوا أن حاولوا منعه من العودة إلى مكة، فإنه عليه الصلاة والسلام تبنى موقفًا منبنيًا على الواقع في ذلك الحين، وهو واقع سيطرة القبلية والعصبية على الحياة الاجتماعية والسياسية –بالمفهوم البسيط للسياسة والحكم والسيطرة– في شبه الجزيرة العربية، فاستجار بأحد المشركين من أصحاب المَنْعة والعصبية، وهو المطعم بن عدي.
وفي واقعة الهجرة، التي تمثل أهم أحداث فترة البعثة؛ التزم الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، فإنه ظل لثلاث سنوات يستقبل في وفود من أهل القبائل والعشائر المختلفة من أهل يثرب، لضمان تأييدهم وحمايتهم للمسلمين ودولتهم التي سوف تتأسس هناك بعد هجرته "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ولم يهاجر إلا بعد أن ضمن ذلك.
وحتى عند صياغته "وثيقة المدينة"؛ كانت الصياغة لأول دستور في تاريخ الدولة الإسلامية، بل وأول وثيقة مواطنة معروفة في التاريخ؛ كان الاعتراف بالأمر الواقع القائم في ذلك الحين، فيما يخص خريطة المكونات الاجتماعية والسياسية، ومراكز القوى، بل وتأكيده.
وكان المسلمون الأوائل، ومنهم الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، يطوفون بالكعبة المشرَّفة، ويصلُّون حولها، بينما الأصنام قائمةً، ليس عن رضىً، ولكن استجابة مؤقتة للأمر الواقع، مع يقين بأنه سوف يأتي اليوم الذي سوف يُتِمَّ اللهُ تعالى عليهم نعمته، ويفتح عليهم بلد الله الحرام، ويمكِّن دينه فيه، وتُهدَم الأصنام.
كان المسلمون الأوائل، ومنهم الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، يطوفون بالكعبة المشرَّفة، ويصلُّون حولها، بينما الأصنام قائمةً، ليس عن رضىً، ولكن استجابة مؤقتة للأمر الواقع، مع يقين بأنه سوف يأتي اليوم الذي سوف يُتِمَّ اللهُ تعالى عليهم نعمته
ويفنِّد ذلك بعض الأفكار و"الفقه" غير الرشيد لجماعات تنسب نفسها للإسلام، ولديها رؤىً خاطئة للتعامل مع المجتمعات، مثل جماعات التكفير والهجرة، التي تعتزل المجتمعات التي يعيش فيها مسلمين لا يعلمون دينهم بشكل صحيح كامل، ولديهم مشكلات.
وهي رؤى حرصت الحركة الإسلامية الصحوية على تفنيدها، من خلال الرجوع إلى المنهج الإسلامي الصحيح، وما تقدمه السيرة النبوية في هذا الصدد، ومن بين أهم الأدبيات الموضوعة في هذا المقام في زماننا المعاصر، أدبيات محمد قطب، ومحمد الغزالي؛ حيث يُعتبر كلاهما من أهم المدارس التي رات ضرورة الاشتباك مع الواقع، وأنه أساس أي حِراك ناجح بعيدًا عن التنظير وأحاديث القيمة العامة غير المرتبطة بمشكلات الأمة، ومتطلبات التعامل معها.
إذًا؛ فإن التعامل مع الأمر الواقع، قانون، ويجب على الداعية أن يكون ملتزمًا به.
إلا أنه، وهي طبيعة معروفة للسلوك الإنساني؛ لا توجد حدود دقيقة لهذه الأمور التي تنتمي للعلوم الاجتماعية والأمور التي تخص الإنسان، بخلاف الأمور التي تنتمي إلى العلوم الطبيعية؛ حيث الإحكام ذاته.
وبالتالي؛ فإنه في الإطار المجتمعي؛ هناك خيوط رفيعة تفصل بين الإيجابي والسلبي من السلوك والمواقف .
وفي حياة الداعية؛ فإن قضية مقتضى الواقع، وكيفية التعامل معه، غالبًا ما ترتبط أو تتداخل مع بعض الأمور والنواحي السلبية.
ومن بين أهم هذه الأمور، قضية "البراجماتية" أو الـ(Pragmatism).
و"البراجماتية" هي مذهب فلسفي، يستند إلى فكرة أو منطق أساسي في الحكم على الأشياء والإجراءات والسلوكيات المختلفة، وهو منطق العملية أو العَمَلانيَّة في بعض الترجمات، ويُعرَف بفلسفة الذرائع؛ حيث إن كل عملٍ مبرَّر ما دام وراءه مصلحة يفرضها الأمر الواقع.
وهو مذهب نشأ في الولايات المتحدة، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، استجابة لحركة الرأسمالية المتوحشة التي كانت آخذة في وجهها، ولا تلقي أي بال لأية اعتبارات أو قيم إنسانية أخرى، وعلى رأسها قضية الأخلاق التي ظلت لقرون طويلة واحدةً على رأس مباحث الفلسفة، حتى ظهر المذهب الليبرالي، والتطبيق الاقتصادي له، الرأسمالية، لتحل مبادئ المنفعة الفردية والحرية المطلقة غير المقيدة، محل مباحث الفلسفة التقليدية التي وضعها أفلاطون وأرسطو وغيرهما من آباء الفلسفة اليونانية القديمة.
وتتداخل هذه المشكلة مع بعض "المبادئ" التي اعتمدتها بعض الحركات الإسلامية في إدارة أمورها، وجرى توجيهها بشكل خاطئ يخرج عن صميم النموذج المعرفي الإسلامي أو الـ"Islamic paradigm" بجوهر محتواه الأخلاقي الذي يستند إليه.
ومن بين هذه المشكلات، سياسات الموائمة أو الـ"Adaptability" التي تحولت لدى بعض الدعاة إلى حالة من "التُّقَيَّة" المتعارف عليها في المذهب الشيعي، ويجمِع علماء أهل السُّنَّة والجماعة على أنها من المُحرَّمات في الشريعة الإسلامية.
ولا يجوز لأحد الدخول في نوايا الدعاة الذين يقعون في مثل هذه الأخطاء؛ حيث يمكن القول بأن ذلك يعود إلى الحماسة غير المُرَشَّدة لما يقومون به من عمل في خدمة الدين، والتي تدفع إلى بعض الخروج عن النص، والنص المقصود مجازًا هنا هو أحكام الشريعة الإسلامية وضوابطها.
وهو أمر قد فُطِرَ الإنسان عليه، ووقع فيه حتى بعض أنبياء الله تعالى، وسُورَة "ص" تحكي بالتفصيل موقفًا حدث مع نبي الله سليمان "عليه السلام"، وكانت النتيجة أن حبط عمله، واستغفر ربه.
يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)}.
وهذا الموقف خلده القرآن الكريم، وبالتالي؛ يجب علينا كمسلمين أن ننتبه إلى وجود حِكَم لله عز وجل من ذلك؛ أن نراه – الموقف – حاضرًا أمامنا عبر القرون الطويلة إلى أن يشاء الله تعالى فيرفع القرآن من الأرض.
ومن بين الحِكَم الربانية ها هنا، أن النوايا الحسنة لا تكفي لتفسير أو تبرير وتمرير العمل عند الله تعالى، والحصول على نصره وتأييده؛ حيث إن النية يجب أن يشفعها عمل ملتزم بالقواعد التي تحددها الشريعة، وعلى رأسها المكوِّن الأخلاقي والسلوكي.
النوايا الحسنة لا تكفي لتفسير أو تبرير وتمرير العمل عند الله تعالى، والحصول على نصره وتأييده؛ حيث إن النية يجب أن يشفعها عمل ملتزم بالقواعد التي تحددها الشريعة، وعلى رأسها المكوِّن الأخلاقي والسلوكي
ولا يتعارض هذا مع مُقدِّم الحديث؛ حيث إن هناك فارقاً بين التعامل مع الأمر الواقع وفق مقتضاه، وبين "البراجماتية" والموائمة التي تنزلق إلى صيغة "التُّقَيَّة" .
ففي شريعتنا الإسلامية؛ هناك ضوابط عديدة لقضية التعامل مع مقتضى الأمر الواقع، والتسليم ببعض مفرداته.
فهناك أبواب كاملة من الفقه تقوم بضبط البوصلة في هذا المقام، مثل فقه الموازنات، وهو الفقه الذي يُعنى باستخراج الأحكام الشرعية الضابطة لموقف بعينه وفق مقارنة بين المصالح والمفاسد، بشكل يقوم على أساس مقاصد الشريعة الإسلامية، كما في الكتاب والسُّنَّة النبوية الشريفة.
ومن بين أهم علماء المسلمين الذين بحثوا وكتبوا في هذه المسألة الشاطبي، وابن القيم، والعز بن عبد السلام وغيرهم. ويُعتبر كتاب "الموافقات" للشاطبي، من بين أهم وأكمل الكتب التي يجب أن يدرسها دعاة الزمن المعاصر، من أجل تفادي الوقوع في مزالق "البراجماتية" المسيئة تحت مبرر مصلحة الدعوة والعمل الإسلامي.
فالكتاب يقدم منهجًا متكاملاً للتعامل مع المواقف المختلفة المُستَجدَّة وفقه الواقع بناء على بيان كامل لمقاصد الشريعة الإسلامية كما في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، والأحكام والمصالح الكلية، والقواعد الأصولية، بما في ذلك آحاد الأدلة ومفردات التشريع الإسلامي.
أهمية الكتاب في المنهجية التي تبناها الشاطبي فيه، فهو وضعه في خمسة أقسام، من أهمها في هذا الموضع من الحديث، القسم الثالث، "في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام"، والقسم الرابع، "في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة".
ولا يقف التراث الإسلامي عند "الموافقات" فحسب، وإنما هو نموذج؛ حيث إن لدينا نماذج مهمة لدى الإمام مالك، والإمام الشافعي، وعلماء الأصول، في نقطة الموازنة بين المصالح وفق حاكمية المقاصد والنصوص، كقيدٍ مهم يمنع الشطط تحت أي مبرر.
هناك ضرورة فعلية من جانب شيوخ وعلماء المسلمين في هذه المرحلة، من أجل تحديد دقيق وواضح لقواعد العمل الدعوي، وكيفية التعامل مع الواقع والمستجدات وفق أحكام الشريعة، والنموذج الأخلاقي الإسلامي
وفي الأخير؛ فإن هناك ضرورة فعلية من جانب شيوخ وعلماء المسلمين في هذه المرحلة، من أجل تحديد دقيق وواضح لقواعد العمل الدعوي، وكيفية التعامل مع الواقع والمستجدات وفق أحكام الشريعة، والنموذج الأخلاقي الإسلامي؛ حيث إن أي عمل يتجاوز هذه المعايير، لا يقود فحسب إلى تعطيل، وإنما إلى أذىً كبير للجهود الدعوية مع حدوث تناقضات بين ما ندعوا إليه وبين كيفية قيامنا بالدعوة إليه، مما يقود إلى انصراف الجمهور المستهدف بالدعوة.
وتزداد أهمية وإلحاح هذه المسألة مع التشويش الحاصل على العمل الإسلامي، والأشخاص والجماعات التي تعمل في المجال الدعوي، في ظل الصراعات السياسية التي خاضتها بعض الجماعات والحركات الإسلامية مع أنظمة وحكومات مستبدة في العالم العربي، ونتشار أعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها وتتبناها جماعات تنسب نفسها للإسلام، بينما هي بعيدة كل البُعد عن المنهج الإسلامي الصحيح.