توزان الجسد والروح في رمضان

الرئيسية » بصائر تربوية » توزان الجسد والروح في رمضان
ramadan-people30

يرتبط شهر رمضان في أذهاننا بالروحانيات لدرجة تجعلنا نهمل فيها تعاهد أجسادنا وحسن إدارتها، ولا ننتبه أن النظام الجسدي بوابة النظام الروحي، فأنّى للصيام والقيام أن يجددا شباب إيمانك إذا كنت تترنح صائمًا وتتثاءب قائمًا ؟! ومع أن المقصود الرئيس من شهر رمضان هو تغليب العزم والحزم في التعامل مع شهوات الجسد من الطعام والنوم والخمول والكسل، وتنبيه الواحد منا لمكامن الطاقة الحقيقية فيه التي لا يعيقها تقليل طعام أو نوم، نجد أننا حوّلنا تقليل الطعام والنوم من خير عون على شد عود الإرادة والعزم إلى أكبر دافع على ضدهما تماماً!

إنك ربما -في غير رمضان- متى اشتهيت شيئًا سارعت إليه بلا تفكير، طعامًا أم حلوى أم مشروبًا، ولو لم تكن جائعًا أو تحتاجه، وربما تغلبك نفسك على التكاسل في يوم حار أو ليلة منعشة فتنام من باب الفراغ والتبطل، أو التلذذ بالراحة، لا لأنك حقًا تحتاجها، فيأتي رمضان و"يَفرِض" عليك حين تشتهي ألا تأكل، بل حين تشعر حتى بحاجة أن تقاوم قليلًا بعد، ولو لم "يفرض" هذا ما كنت قاومت من نفسك... فلماذا فرض إذن؟

لتجويعك؟ لتكدير عيشك؟ لقلب نظام حياتك كل سنة؟

هل فُرض الصيام بالنهار لتأكل الضعف في الليل؟ أو شُرع القيام في الليل لتقضي كل اليوم نائمًا؟

أم لتنبيهك لنظام الحياة الأصح جسدًا وروحًا، فأنت تعيش عامك كله في تناغم بين مطالب الاثنين، ومعادلة واعية في الشدّ والجذب، فإذا أهلّ عليك هلال رمضان جدّد فيك ما كان تراخى من العزم، أو أعانك على ملك زمام هواك بنفسك إذا كنت ممن يملّكون زمام أنفسهم لهواهم.

هل فُرض الصيام بالنهار لتأكل الضعف في الليل؟ أو شُرع القيام في الليل لتقضي كل اليوم نائمًا؟

فإن لم يكن في رمضان فمتى؟

وحتى متى يظل تصوّرك عن رمضان وتعاملك معه على أنه قلب لنظام حياتك ؟

متى تبدأ في تعديل نظام حياتك وتصحيحه ليكون أصلًا على ما يراد منك ولك؟ فإذا أهلّ عليك رمضان استقبلته استقبال مشتاق لعون يثبّته ويعينه ويرقّيه، وليس استقبال زائر ثقيل يغيّر صفو عيشك مؤقتًا، ثم ينصرف فتعود لسابق عهدك من الفوضى الروحية والجسدية والوقتية... إلخ؟

خطر هذه العقلية في التعامل مع الجسد بغير تمييز ولا ضبط بين الحاجة والاشتهاء أنه ينعكس سلبًا على الروحانيات والعبادات التي هي جوهر هذه الفرصة الكريمة كل عام. ويتجلى ذلك بوضوح في نوم النهار بطوله، وسهر الليل بعرضه، والترنّح من الجوع وقت الصيام، ومن التخمة وقت الإفطار والسحور، وما يترتب على هذه الفوضى الجسدية من فوضى روحية في تلاوة متثاقلة، وتراويح مجهدة، وقيام متكاسل، الروح تبع للجسد ليست منفصلة عنه، فعلى قدر عزمك في التعامل مع جسدك يكون عزمك في الارتقاء بروحك، جفّف منابع الغفلة والملهيات أولًا؛ لتستيقظ قوى الذكر والتجدد !

اعتبر رمضان هذا العام بداية تعديل جوهري لنظام حياتك نفسها، روحًا وجسدًا، بحيث تبني على ما ستداوم عليه طوال الشهر، فيصير ذلك لك عادة وطبعًا جديدًا.

الروح تبع للجسد ليست منفصلة عنه، فعلى قدر عزمك في التعامل مع جسدك يكون عزمك في الارتقاء بروحك

وتعديل نظام الحياة الروحية يرتكز على حسن إدارتك لبدنك في ثلاثة جوانب:

– النوم
– الأكل
– اللياقة

وسنخصص هذا المقال لتناول كيفية إدارة النوم.

حتى تتمكن من تعديل نظام نومك -فيصير متسقًا إيمانيًا مع روحك- ينبغي فهم جانبيه (الفيزيائي والروحي كذلك)، ثم البناء العملي على ذلك:

سؤال: لماذا خلقنا الله قابلين للنوم؟ لماذا أوجد الله النوم بداية؟

1. لأن النوم آية من آيات الله تعالى، ودليل من دلائل ملكه وسلطانه، فهو وحده سبحانه لا تأخذه سِنة -أي غفوة- ولا نوم، أما كل المخلوقات فلا بدّ لها من الخضوع لسلطانه آخر المطاف، مهما قاومت، فتبارك الله رب العالمين.

2. النوم أراده الله لعباده رحمة؛ ليكون سُباتًا -أي سكينة-، فبهذه السكينة تتجدد طاقتهم تلقائيًا؛ لتعينهم على المعاش والنشور إذا كتب الله لهم أنفاسًا بعده، فهو عون على العزم والسعي لا مُقعد عنهم.

3. وهو موت أصغر، ترقى فيه الروح لبارئها، فإن كانت روحًا مؤمنة فنومها روضة وعبادة، ومن ثم كانت له إعدادات وأذكار مخصوصة؛ لأنه في حقيقة الأمر إعداد للقاء مصغر بالله، لكننا مع الأسف لا نستشعره ولا نستحضره، تذكرة ليوم نوم لا نشور بعده ولا حياة حتى قيام الساعة!

فهم هذه الجوانب الثلاثة للنوم كما أراده موجده تبارك وتعالى، يجلّي التصورات الخاطئة له، والتي أكثرها شيوعًا أنه عدد ساعات محددة، من قلّ عنها أو تجاوزها لا يُؤتَى ثمارها، فإننا لنعلم من سير العلماء والأئمة من كانوا لا ينامون الثماني أو التسع ساعات التي أقرّتها منظمات الصحة، وكانوا أوفر أبدانًا وصحة، وأيقظ عقولًا، وأصفى نفوسًا على قلة نومهم، بل إن الله تعالى يصف المقربين بأنهم كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون.

ذلك أن ثمار النوم من الراحة والنشاط هما في الأصل بركة وهبة من الله تعالى لمن صدق استجلابها، وذلك يكون بـ:

1. اتباع هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام وسننه: من الوضوء قبله، وقراءة أوراد النوم من سورة (الملك والكافرون والمعوذات وكافة الأذكار)، ثم النوم على الشِّق الأيمن، واستحضار دعاء التقلّب في الفراش لمن يتنبه ليلًا، فالذي ينام وقلبه معلّق بالله، لا يستوي في المردود، ومن ينام قلبه معلق بالوسادة ومعاشه في اليوم التالي!
2. ومن جهة أخرى، لابدّ من الأخذ بالأسباب الفيزيائية كما الروحية، تعبدًا لله تعالى في الحالتين، فإن الله تعالى ما جعل أمرًا إلا وله سبب، من أخذ به يرجى له التوفيق والسداد بإذن الله تعالى.

جرّب وسجّل وتتبع عادات نومك:

استعن بهذه المعرفة في تسجيل عادات نومك وتتبعها، كم ساعة متصلة تحتاجها لنوم يمكنك الجلوس فترة بعده؟ وفي مقابل كم ساعة نوم تحصل على كم ساعة يقظة تقريبًا؟ وما أكثر الأوقات التي تخمل فيها؟ هل هي مرتبطة بطول اليقظة، أم بكثرة الأكل، أم بركود الهواء حولك؟ فليس كل خمول هو دعوة للنوم، بل ربما يكفي تجديد النشاط بتمشية أو عمل ما.

اجتهد أن تكوّن نظام نوم ثابت يصلح لغالب نظام حياتك، والعبرة فيه بأن يكون معينًا لك على اليقظة والصفاء الذهني، سواء اتصلت مدته أم انفصلت، واجتهد أن تداوم عليه حين توفّق إليه، فتنام في موعدك، وتستيقظ في موعدك -ولو في إجازة- وحين تغمر اليقظة والتنبه نظام حياتك بأكمله، ستجد نفسك تستيقظ تلقائيًا مع الوقت بدون منبه خارجي، خاصة لو أنك ممن يتبعون الهدي النبوي من النوم المبكر والاستيقاظ المبكر والقيلولة بينهما.

اجتهد أن تكوّن نظام نوم ثابت يصلح لغالب نظام حياتك، والعبرة فيه بأن يكون معينًا لك على اليقظة والصفاء الذهني، سواء اتصلت مدته أم انفصلت

أفضل أوقات النوم من الهدي النبوي:

1. نصف الليل الأول من بعد العشاء -يعين على قيام الثلث الأخير والذكر بعد الفجر- فعن أبي برزة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها".

2. القيلولة بين الظهر والعصر.

3. أو من الضحى (ارتفاع الشمس على حوالي الساعة 10) حتى الظهر.

أوقات مكروهة للنوم (وعديمة البركة):

1. بعد صلاة الفجر مباشرة -وقت تقسيم الأرزاق وأوراد النهار-.
قال ابن القيم: "المكروه عندهم (أي الفقهاء) النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزيّة عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر".

2. بعد صلاة العصر، كرهه أهل العلم من الناحية الطبية، ولأنه وقت الدعاء المستجاب وأوراد المساء، لكن لم يرد في كراهته مانع شرعي.

3. بين المغرب والعشاء، للنهي الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وقت إحياء ما بين الصلاتين بالنوافل والذكر.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …