حدثني شيخ من شيوخ الدعوة في أول يوم من رمضان عن حال أتباعه معترضاً فقال: يريدون أن يتفرغوا للعبادة في رمضان اقتداء بالسلف الصالح وما ورد عنهم، ولا يريدون أن ينشغلوا عن العبادة بالدعوة ولقاءاتها وقوافلها وخطبها!
يريدون أن يعلقوا نشاطهم الدعوي لحين انتهاء رمضان، حتى يكون كل جهدهم وطاقتهم في العبادة؛ صياما وقياما وقرآنا وذكرا!
وقال الشيخ: هم لا يضعون في الاعتبار الفرق الهائل بيننا وبين أسلافنا من العلماء والدعاة.
وكأنه بذلك أراد أن يذكر فرقين كبيرين: فرق أول بيننا نحن أهل الدعوة وبينهم كدعاة وعلماء أسلاف، حيث أنهم كانوا يعيشون طوال عامهم للدعوة والعلم والتعلم على الحقيقة، فكان كل ليلهم ونهارهم لذلك، اللهم إلا من ساعات قليلة بالليل للنوم، وساعات قليلة بالنهار لقضاء أشد الحاجات ضرورة. فإذا جاءهم رمضان، حقّ لهم أن يتفرغوا فيه للعبادة، وأن يستريحوا كذلك من جهدهم وعنائهم طوال العام في العلم والتعلم والدعوة.
وفرق ثانٍ بين الواقع الذي نعيش فيه والواقع الذي عاشوا فيه!
فقد عاش هؤلاء العلماء والدعاة الأسلاف بين أناس كانوا في عمومهم أقرب إلى الله وأشد تمسكاً بدينه وسنته.
ولذلك فقد كان غياب أهل العلم والدعوة عنهم في شهر رمضان لا يمثل إشكالاً كبيراً، ذلك لو افترضنا أن أهل الدعوة والعلم سيغيبون جميعاً في شهر رمضان، وسيغيبون بالكلّية.
أما أهلنا الذين نعيش معهم، فقد أصبح بعدهم عن دين الله وسنة نبيه بعداً ظاهراً كبيراً، يدعو للتساؤل والإنكار: أهذه هي أمة الإسلام وأمة محمد صلى الله عليه وسلم!
ولذلك فإن أعظم ما يتقرب به المؤمن لله في هذا العصر هداية الناس وإرشادهم لدين الله ومنهج الله ، ذلك بالطبع مع الحد الأدنى من العبادة المطلوبة، وكذلك الحد الأدنى من العلم والمعرفة الواجبة.
ولقد شاهدت حواراً لأحد أكبر الدعاة في هذا العصر، وهو ممن أسلم على يديه كثيرون، وممن أوقف حياته كلها للدعوة والهداية والإرشاد.
شاهدته وهو يقول لمحاوره: أتفرّغ في رمضان للعبادة والقرآن، ولا أنشغل عنهما بشيء، ولا حتى بالعلم والدعوة.
وحال هذا الداعية كحال أسلافنا من العلماء والدعاة كما ذكرنا آنفاً، فهم جميعاً ممن أوقفوا حياتهم كلها للعلم والدعوة، ولهم لا لغيرهم أن يتفرغوا لعبادة الله في رمضان، وأن يجعلوه راحة لهم من عناء الدعوة والعلم والتعلم طوال العام.
كما أن الحديث عن التفرغ للعبادة في رمضان دون العلم والدعوة جائز في حق أولئك الذين يكون رمضان معهم شهر عبادة ليلاً ونهاراً، فلا عمل لهم فيه إلا العبادة، ولا حال لهم فيه إلا العبادة.
ولا يتركون العبادة إلا لقضاء أشد الحوائج التي تقيم أوَدهم من أقل الطعام وأقل النوم، وينصرفون فيه عن أعمال الدنيا، وعن كل زينتها.
أما أن يكون الواحد منّا في رمضان مضيّعاً لأغلب وقته في عمله الدنيوي، وفي قضاء حوائجه وحوائج أهله، بل وفي كثيرٍ من التسلية والترفيه والفراغ، فإذا ما طالبناه بعمل تعليمي أو دعوي تحدث عن التفرغ للعبادة في رمضان، فهذا هو التسفيه بعينه!
أن يجعل المؤمن الساعي إلى إرضاء ربه شهر رمضان كله للعبادة لا غير كما كان يفعل أسلافه، وكما ذكر ابن رجب في لطائف المعارف بقوله: "كان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام".
وقال ابن عبد الحكم: "كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف".
وقال عبد الرزاق: "كان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن".
أقول: أن يجعل المؤمن رمضان شهراً للعبادة لا غير كما كان يفعل الأسلاف، فهذا مما يُحمد له، على أن يجعل عامه كله مثل عامهم، طلباً للعلم وتعليماً له ودعوة للناس.
أن يجعل المؤمن رمضان شهراً للعبادة لا غير كما كان يفعل الأسلاف، فهذا مما يُحمد له، على أن يجعل عامه كله مثل عامهم، طلباً للعلم وتعليماً له ودعوة للناس
أما إن كان من الصعب أن يكون حاله كحالهم طوال العام، فليس لزاماً عليه أن يجعل حاله كحالهم في رمضان، وله عندئذ أن يزداد في رمضان من العلم تعلّماً وتعليماً، وله كذلك أن يجتهد في دعوة الناس وهدايتهم وإرشادهم، كل ذلك مع العبادة صياماً وقياماً وذكراً وقراءة للقرآن.
على أن تكون العبادة هي الأصل والأكثر كَمّاً في هذا الشهر العظيم، ذلك لأنه قد جعله الله لذلك أولاً وقبل أي شيء آخر، ليكون زاداً عبادياً يستطيع المرء أن يتزوّد منه لعامه كله، وليكون طاقة روحية تحركه طوال العام في العبادة والتعلم والتعليم والدعوة.
ومن غير هذا التزود العبادي السنوي، يمضي المرء عامه، لا يقدر على شيء من العلم والدعوة والعبادة إلا بجهد بالغ، مع ضياع البركة والثمرة منه، لنقص الطاقة الروحية التي تتأتى من مواسم الطاعة، والتي يأتي على رأسها شهر رمضان المبارك.