رمضان وضبط بوصلة القلب

الرئيسية » خواطر تربوية » رمضان وضبط بوصلة القلب
compass19

كثيراً ما تشغلنا حياتنا في هذا التسارع المحموم الذي نعيشه في كل تفاصيلها وأعمالها، وكأننا في سباق لا هم لأحدنا فيه إلا قطع أطول المسافات وإنهاء أكثر الواجبات، بل ويعاني الكثير منا بفقد لذة الأمور وطعمها، فإذا قمنا بأداء أي عمل كان خاوياً لا روح فيه، بل وأكثرنا لا يهمل نفسه لحظة ليتفكر لأجل من قام بهذا الواجب أو ذاك العمل، و ربما وجد نفسه تنشط إلى بعض الأعمال دون غيرها أو ربما يظن أنه واجبٌ ورثه عن الآباء والأجداد دون أن يلتمس حضور قلبه أو تواجد نفسه أو حتى مرتبته إن كان ثمة ما يوجبه أو يعتبره من نافلة الأعمال.

وتتنوع العبادات ما بين المفروض منها والمسنون، فمنها ما يندرج تحت الأمور المادية ومنها ما هو عمل جسدي محض ومنها ما يجمع بين هذا وذاك، وغالبا هذه العبادات ما يشهدها الآخرون حال تأدية الشخص لها وإن غاب عنا حال قلبه في عبادته هذه، بل ربما كثير منا من فقد جوهر هذه العبادات لأن الاعتياد على الأشياء دون تدبر وتفكر وحضور قلب يفقدها الجوهر الحقيقي لها.

وتأتي عبادة الصوم شهراً كاملاً لتجبرنا اضطراراً على المكوث برهة مع هذه العبادة، لنخالف الاعتياد الذي ألفناه في مجريات حياتنا، حتى إذا تكلف أحدنا وتفكر عن الحكمة من الصوم بهذه الأجواء الحارة والساعات الزمنية الطويلة جاءك الرد متسرعاً من الغالبية العظمى من الناس الذين لُقِنوا هذه الإجابة منذ الصغر للشعور: مع الفقراء والمساكين والإحساس بهم ومشاركتهم في جوعهم وفقرهم وبؤسهم، ليقفز لأذهاننا ما فائدة الشعور بهم شهراً من العام والسياط تهوي عليهم باقي العام؟ بل ما فائدة ذلك إذا كانوا سيأوون إلى موائد الحرمان ونأوي إلى موائد تجمع ما لذ وطاب في ساعة الإفطار لدرجة أن يعجز بعضنا عن القيام بعد إفطاره عن المائدة من فرط ما أكل وشرب!!

فما الغاية من عبادة الصوم سؤال يجب أن نقف عنده طويلاً لأنه يترتب عليه بعد ذلك نهج حياة وطريقين لا ثالث لهما إما فوز وفلاح أو خيبة وخسران وغفلة يتبعها غفلات متراكمة تحجب عنك النور الذي بين يديك وأمام ناظريك، ويتلخص غاية الصوم في تذييل آية كريمة تعبر صراحة عن الهدف المنشود في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة:183].

والتقوى مكانها القلب الذي لا مجال لأن يطلع عليه غير بارئه، فليس ثمة مقياس تقيس به التقوى، بل الأمر جلّه بينك وبين بارئك، والقلب ظاهر له وإن خفي منه عنك شيئاً، وأنت صاحبه وتضمه بين الضلوع!

فجل شأنه لا تخفى عليه خافية ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات" (رواه مسلم)، ويعلق ابن رجب على هذا الحديث قائلا: "فيه إشارة إلى أنّ كرم الخلق عند الله بالتقوى فربّ من يحقره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا وهو أعظم قدرا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا، فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى" (جامع العلوم والحكم) كما قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[سورة الحجرات: آية13].

بل إن هذه القلوب التي هي مستقر التقوى هي محط نظر الله جل شأنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (رواه مسلم)، ويقول تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [سورة الشعراء]، وانظر لعِظَمِ الأمر وجلله في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (رواه البخاري)، فمناط صلاح أمر المرء قائم على هذه المضغة التي نغفل كثيرا عن مكاشفة حالها ومراقبة حقيقة أمرها وغاية عملها.

ثم هل يبقى لعاقل حجة في الانصراف عن تفقدها وتعهدها واستحضارها في كافة أعماله بعد أن يسمع ابن تيمية يتحدث عن القلوب: "فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض" (منهاج السنة النبوية)، بل انظر لابن القيم الجوزية يحذر من انصراف الناس عن أعمال القلوب واهتمامهم بأعمال الأبدان مع أنها أوجب إذ يقول: "فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست واجبات الدين عند كثير من الناس بل هي من باب الفضائل والمستحبات فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريماً وأعظم إثماً" (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).

فالله جل شأنه لم يفرض الصوم علينا مرة في العام لإرهاق أبداننا أو تجويع أمعائنا أو لتظمأ عروقنا حاشى لله ذلك وهو الغني عنا وعن كل عبادتنا، فنحن لعبادته أحوج ما نكون وبعبوديته نستغني ونرتقي، وإنما جاءت هذه الفريضة لنلتفت إلى ما غاب عنا طوال شهور خلت، فتتركز العناية على القلب الذي هو أساساً ملك الجوارح وهي له تبع وخدم، فشهر يترفع به القلب عن الشهوات ويخبت وينكسر بين يدي جبار الأرض والسماوات لحري به أن يشرق من بعد ظلمات الغفلة والسيئات، فيصبح على الحال الذي وصفه بها ابن القيم إذ يقول: كلما طهر القلب رق، فإذا رق راق، وإذا راق ذاق، وإذا ذاق فاق، وإذا فاق اشتاق إلى الله، وإذا اشتاق إلى الله اجتهد، وإذا اجتهد هبت عليه نسائم الجنة فيفرح بالطاعة.

جاءت هذه الفريضة لنلتفت إلى ما غاب عنا طوال شهور خلت، فتتركز العناية على القلب الذي هو أساساً ملك الجوارح وهي له تبع وخدم، فشهر يترفع به القلب عن الشهوات ويخبت وينكسر بين يدي جبار الأرض والسماوات لحري به أن يشرق من بعد ظلمات الغفلة والسيئات

فالقلب هو البوصلة التي تتحرك وتحدد الجهات والوجهات فتتبعها الجوارح، فإذا لم تنضبط بوصلة القلب في هذا الشهر الفضيل وتُحدد وجهتها فأي شهر يضبطها بعدئذ !
وإذا لم يمسك القلب عن شهواته فأي نظر سنغضه عن محارم الله وأي أذن سنصمها على كل ما يغضب الله وأي لسان سنمسكه عما لا يرضي الله!

و إذا لم يضبط القلب بوصلة سعيه المرجوة في هذا الشهر المبارك ليصبح هذا ديدنه وحاله في كل زمن يلحق برمضان وكل مكان رحل عنه رمضان، فما الغاية إذن من إمساكنا عن شهوتي الفرج والبطن في نهار رمضان وترك البوصلة تهتز وتشير إبرتها لكل وجهة بلا ضابط ولا رقيب؟!

ونص واحد إن غابت عنك كل النصوص واضطربت بوصلة قلبك كفيل بأن يعيد ضبط البوصلة إذا أعطيته فقط دقيقة تدبر وتأمل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة فيجعلها الله هباء منثورا فقالوا يا رسول الله صفهم لنا لكي لا نكون منهم ونحن لا نعلم فقال أما إنهم من إخوانكم ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (الطبراني، المعجم الصغير).

إنّ هذا الحديث كفيل بإشعال الشيب في رأس الوليد؛ حسنات أمثال جبال تهامة ولكنها هباء منثورا وما ذلك إلا لتركيزنا على أعمال الأبدان دون أعمال القلوب، فكم صائم ما ناله من صيامه غير الجوع والعطش لأنه انتهك حرمات الله بعد إفطاره، وكم مصلٍ خرج من مسجده ولم يرافقه غير تعب القيام والركوع والسجود، لأنّ القلب الذي ضُبطت بوصلته أنّى له أن يسمح لصاحبه وجوارحه أن تنتهك محارم الله، فصيامه عن المحرمات قائم فيه وجزء منه في صيامه وإفطاره في رمضان وغير رمضان، هذا شأن المؤمن الذي يخفق في جوفه قلبٌ ينبض بخشية الله أنّى لبوصلته أن تضل أو تزل وإن حدث آب وتاب، ولهذا ليكن رمضان هذا ميلاداً جديداً ليضبط كل منا بوصلة قلبه فحيث أمر الله كان أسبق الحاضرين وحيث نهى كان أسرع المنتهين الفارين .

اللهم إنا نسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

الحياد في زمن الظلم: وعي أم تواطؤ؟

في خضم النزاعات التي تعصف بالمجتمعات، يختار البعض أن يلوذ بالصمت، ويتخذ من الحياد درعًا …