من المعروف أنه لم تمر حِقبة من حِقَب الزمان إلا وكان فيها حرب ضروس بين الحق والباطل، وهذه هي سنة الله تعالى في خلقه، ولقد مرَّت على الأمة الإسلامية أحداث جِسام، مَن شهدها ظن أنه لن تقوم للإسلام بعدها قائمة، وفي كل مرة تخرج الأمة الإسلامية وهي أصلب عُودًا، وأقوى قوة، وأمضى عزيمة، تخرج وقد نفضت عنها خبثها، وتجدَّد شبابها، وكادَتْ عدوَّها فاندحرَ وخنث كما يخنث الشيطان.
يقول الخطيب الإدريسي رحمه الله: "إنّ الإسلام إذا حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ، والله بالمرصآد لمن يصدّ، وهو غنيّ عمّن يرتدّ، وبأسه عن المجرمين لا يُردّ، وإن كان العدوّ قد أعدّ فإنّ الله لا يعجزه أحد، فجدّد الإيمان جدّد، ووحّد الله وحّد، وسدّد الصّفوف سدّد".
علينا أن ندرك أن ما تمر به مِنطقتنا العربية بصفة خاصة، وأمتنا الإسلامية بصفة عامة، هو ما يشبه الحُمَّى التي تحاول أن تتمكَّن من الجسد النحيل الهزيل، فتُودي به وتُردِيه صريعًا، ولكن المَخرج من ذلك هو حسن فهم سُنة الله تعالى في خلقه، وحُسن فهم القضية جيدًا؛ لأن سوء فهم القضية يجعلها القاضية.
• إننا لابد علينا أن نفهم أن الصراع الحقيقي مع أئمة الكفر وأكابر مجرميها
إن من يصدُّون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عِوَجًا هم مَن طالبَنَا الإسلام بمواجهتهم ودحرهم وإبطال كَيْدهم، حتى يُخلُّوا بين الناس وبين الحق، فهؤلاء لم يطالبنا الإسلام أن نرضخ لهم ولا أن نلين معهم، ولا نركن إليهم، بل يجب ألا يجدوا منا إلا كل غِلظة وكل قوة، وكل ثبات وإصرار على الحق، في إطار وحدود شَرْعِنا الحنيف.
إن الدليل على ذلك أننا لم نعلم ممن تصدَّوا للإسلام في بداية ظهوره إلا رموز الضلال ورؤوس الفتنة.
لقد حارب ألفٌ من المشركين في بدر ولا نعلم منهم إلا أفرادًا يمكن عَدُّهم على الأصابع، وهكذا في باقي الغزوات والمواجهات، وهذا لا يعني أن نغض الطرف عمَّن حَمَل علينا السلاح، أو حارب في خندق الباطل، ولكن أن نُرتِّب أولويات المواجهة، وأن نُوزِّع الجهود على جولات الصراع، فلا نكسب جولة ونخسر المعركة بكاملها.
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12].
قال الإمام القرطبي رحمه الله : "استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طَعَن في الدين، إذ هو كافر، والطَّعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين؛ لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه" أهـ.
أخرج ابن أبي حاتم عن عبدالرحمن بن جُبَير رضي الله عنه أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه في الناس حين وجَّههم إلى الشام، فقال: "إنكم ستجدون قومًا محلوقة رؤوسهم، فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لَأن أقتل رجلًا منهم أحبُّ إليَّ من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله تعالى يقول: ﴿ قَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾.
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "والمراد بالمَكْر هنا تَحَيُّل زعماء المشركين على النَّاس في صرفهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام".
كان النضر بن الحارث قد قدم الحِيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته، خَلَفَه النَّضْر، ويقول: أنا والله -يا معشر قريش- أحسن حديثًا منه، ثم يُحدِّثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟! وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً -أي مُغنية- فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قَيْنَته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنِّيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [لقمان: 6]، فالنضر وأمثاله إلى يوم القيامة هم أئمة الكفر، وأكابر المجرمين، ورؤوس الفتنة والضلال.
إن على من يرفعون لواء التوحيد أن يفهموا طبيعة الصراع جيدًا، وليكن تركيزُ جهودهم نحو الهدف الرئيس؛ حتى لا تضيع جهودهم سُدًى، وليوقنوا بأن الله تعالى لن يتخلى عنهم، ولن يجعلهم لقمة سائغة لرؤوس الضلال، بل سيجعلهم الله تعالى سِتارًا لتنفيذ قدره في أهل الباطل ورؤوس الفتنة، أعداء الله تعالى.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "إنَّ المؤمن المتوكِّل على الله إذا كاده الخَلْق، فإنَّ الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوَّة" أهـ.
إن هذا هو ما يجب علينا أن نَعِيَه جيدًا، فسوء فهم القضية يجعلها القاضية!