سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2-2)

الرئيسية » بأقلامكم » سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2-2)
mindmap-2123973_1920_crop-0cfd117235cea606fa03006d91f97443

بعد ما سبق ذكره في الحلقة الأولى من هذا الموضوع يجب أن نعي أن "الناس على دين ملوكهم" حيث إنه من المعروف أن عامة الناس دائمًا ما تنحاز إلى من يتقلَّد زمام الأمور إما طمعًا في بعض العطايا التي تسد عوزهم وتشبع جوعهم. أو تَقِيَّةً وخوفًاً من أن ينالهم أحد بأذًى لم يألفوه ولم يستعدوا له. أو لالْتِباس الأمر عليهم وعدم فهمهم لأبعاد القضية محل الصراع ولا إدراك مَراميها ومآلاتها. أو ليقينهم أن أهل الحق كثيرًا ما ينسون الإساءة ومِن السهل أن يعفوا ويصفحوا. فعامة الناس يعتبرون أنفسهم خارج حلبة الصراع، وإنما دَوْرهم قاصر على الهتاف للأقوى.

إن على أهل الحق أن يعوا أن سُنة الله تعالى في الصراع أنْ جَعَلَ فئة الحق فئة قليلة مُستضعَفة، وفئة الباطل فئة قليلة مُستأسِدة، وبين الفئتين فئة كبيرة من العوام يُراهن عليها الجميع.

ولتبسيط ذلك قم بحصر مَن يعملون للحق ويدافعون عنه في المكان الذي تعيش فيه، واعلم أن مَن يعملون للباطل هم قُرابة هذا العدد، وإن زاد فقليلاً أو قلَّ فقليلاً، والباقي هم العوام من الناس الذين يعتبرون أنه ليس لهم ناقة ولا جمل في هذا الصراع، لذا يجب على أهل الحق ألا يعادوا ضعيفًا. ولا ينتقموا من مُغرَّر به. ولا يُعرِضوا عن مَن يهتف تَقِيَّةً وخوفًاً وطمعًا. ولا يُسفهوا من هو مُغيَّب الوعي ولا يدرك حقيقة الأمور.

فليس من العقل أن تترك المباراة داخل الحلبة وتتفرغ للجمهور الذي يهتف لخصمك؛ فهؤلاء عندما ينتصر الحق ويمكَّن له سيُسرعون التحول تجاه قبلتك، والوقوف تحت رايتك، ويعتنقون ما تدعو إليه اعتناقًاً، ويدخلون في خندق الحق أفواجًا.

ألَمْ يجعل الإسلام نصيبًا في الزكاة للمؤلفة قلوبهم حتى وإن كانوا على غير دين الإسلام؟

ألَمْ يتزوَّج النبي ﷺ أمَّ المؤمنين السيدة صفية بنت حُيَيِّ بن أخطب -زعيم اليهود- ليكسر شوكتهم ويأمن جانبهم؟

فلنراجع هَدْيَ نبينا صلى الله عليه وسلم لتهدأ نفوسنا وتطمئن.

ثم افترض جدلًا أنك تفرغت لهؤلاء وتمكَّنتَ من تأديبهم -حسب زعمك- وقضيتَ عليهم، هل ستكون بذلك قد قضيتَ على الباطل؟ إنك بذلك تعطي للباطل الفرصة أن يُشوّه صورتك التي هي صورة الحق، وستمنح الباطل المبرِّر لكي يَفتِك بك، وستمنحه الفرصة لكي يستعيد قُواه، ويشحذ همته، ويحدَّ سلاحه، حتى إذا عُدتَ إليه عُدتَ وقد أُنهِكت قواك ونَضَبتْ جَعبتُك، فكنت له لقمة سائغة وهدفًا سهلاً.

ألَمْ ترَ كيف كان النبي ﷺ يتعامل مع الأعرابي الذي يأتيه طالباً الصدقة بفظاظة وغلظة فلا ينهره ولا يعنفه ولا يرد!

عن أبي هريرةَ قال: "كنا نقعدُ مع رسولِ اللهِ ﷺ بالغدواتِ في المسجدِ فإذا قام إلى بيتِهِ لم نزل قيامًا حتى يدخل بيتَهُ فقام يومًا فلما بلغ وسطَ المسجدِ أدركَهُ أعرابيٌّ فقال يا محمدُ احملني على بعيرين فإنك لا تحملني من مالِكَ ولا من مالِ أبيك وجبَذَ بردائِهِ حين أدركَهُ فاحمرَّت رقبتُهُ فقال رسولُ اللهِ ﷺ لا وأستغفرُ اللهَ لا أحملك حتى تُقيدني - أي: ويُفعَل بك كما فعلتَ بي - قالها ثلاثَ مراتٍ ثم دعا رجلاً فقال لهُ احملْهُ على بعيرين على بعيرِ شعيرٍ وعلى بعيرِ تمرٍ" (مُسند عمر بإسناد صحيح).

فيا من تنتهجون نهجَه وتدَّعون محبته، عليكم بهَدْيِه وسنته؛ فإذا كنتَ تريد أن تقتص لنفسك وتثأر لها في الدنيا فماذا تنتظر من الله تعالى يوم القيامة؟

وإذا أردتَ أن تقتص لنفسك وتثأر لها فأين أنت من خُلُق الإسلام من الصبر والاحتساب؟

وإذا أردتَ أن تقتص لنفسك وتثأر لها فقد وسَّعت على نفسك حلبة الصراع، وأكثرت من أعدائك ومصارعيك، فستَخُور قُواك ولن تصل إلى عدُوِّك الحقيقي، بل ستجعله مُتحصنًا بهؤلاء الضعفاء، يَردُّون عنه ويحمونه، ويَفتِكون بك حال الاقتراب منه.

فيا صاحب الحق لا تجعل صاحب الباطل أذكى منك، ولا تجعل صاحب الباطل ينافسك في ميدانك، وعلى أرضك، وبضاعتِك التي لا تجيد غيرها؛ وهي الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وهذا ما يجب علينا أن نعيه جيدًا؛ فسوء فهم القضية يجعلها القاضية. أليس كذلك؟

وختاماً

من المعروف أن أهل الصلاح والتقوى ليسوا على درجة واحدة من الصلاح والتقوى كذلك أهل الفساد والظلم ليسوا على درجة واحد من الفساد والظلم.

لذلك تجد أن القرآن الكريم ذكر كلمة المجرمين 22 مرة - مجرمين 12 مرة - أجرموا 3 مرات - أجرمنا 1 مرة فيكون الإجمالي 38 مرة ، بينما ذكر (أكابر مجرميها) مرة واحدة وكأنها إشارة إلى أن أكابر مجرميها أقل من 3 % من المجرمين، فلا تجعل المجرمين والمفسدين والظالمين كلهم في كفة واحدة فيزيد عليك العبء وتشتت جهدك وتنفد طاقتك بل عليك بأكابر مجرميها ينقاد لك أتباعهم وعليك بأكابر ظالميها ينقاد لك أعوانهم.

اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بعواقب الأمور حتى لا يطمع فينا عدو ولا يساء بنا صديق.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …