تمُرُّ القضية الفلسطينية في هذه المرحلة بمنحنى هو الأسوأ عبر تاريخها، مع دخولها –من دون أن تكون هناك مبالغةٌ في القول– إلى مرحلة تصفية نهائية، في ظل الإجراءات التي بدأت الإدارة الأمريكية الحالية في تبنيها إزاء الملفات الأساسية للقضية.
وعبارة "تصفية نهائية" ليست حكمًا ظنيًّا؛ حيث هي عبارة مُستخدمة بالفعل في الخطاب العام للإدارة الأمريكية عندما تتكلم –سواء البيت الأبيض ومبعوثيه للمنطقة أو الخارجية الأمريكية– عن قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو خططه، ولاسيما ما يُعرَف بـ"صفقة القرن" المزمع الإعلان عن تفاصيلها في الأسابيع القليلة القادمة.
في الماضي؛ كان إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، بمثابة نقطة أو بؤرة تركيز للحفاظ على يقظة الجمهور والرأي العام في العالم العربي والإسلامي، والحفاظ على القضية حية في وجدانهم، وتثبيتها في عقول ونفوس الأجيال الصاعدة.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بعض الارتكاسات قادت إلى مؤشرات تقول بأن القضية الفلسطينية تدخل في منحدر يبدو قرارُه الأسفل على مرمى البصر، ومثَّل بيئة خصبة لإدارة اليمين الشعبوي الأمريكية، ولحكومة اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني.
وأهم هذه الارتكاسات، الانقسامات الفلسطينية الداخلية، والتي طالت، بما نقل صورة ذهنية سلبية إلى شرائح من الرأي العام العربي بأن الفلسطينيين، أصحاب الشأن أنفسهم، غير مهتمين بقضيتهم ومصيرها، بقطع النظر عن عدالة موقف بعض الأطراف الفلسطينية، مثل حركة "حماس" التي لا تملك من الأصل التخلي عن مواقفها المبدئية وإلا لن تعود حركة "حماس" التي أصبح لها حاضنة جماهيرية قوية بناء على ما تتبناه من مواقف وسياسات.
والنقطة هنا، هي أنه، ووفق ما نجده في كتب علم النفس وعلوم الإعلام والسلوك؛ فإن العوام لا يدققون كثيرًا في هذه النواحي؛ حيث إن ظاهر الصورة لديهم، هو الذي يرسخ في الذهن، وهي قاعدة يدركها الساسة وصُنَّاع الإعلانات على حدٍ سواء؛ لأن قاعدة التأثير واحدة.
وأهمية هذه المسألة في أنها ترتبط بالأداة الأنجح والأفعل في الوقت الراهن، وهي المقاومة الشعبية، والتي ترتبط في جانب من جوانب فاعليتها، بنقطة الإسناد الجماهيري.
وجزء كبير من حالة التراجع في مدى الاهتمام، راجع إلى قمع الأنظمة، ومشكلات الشعوب الاجتماعية والاقتصادية في ظل الأزمات الأمنية والسياسية.
جزء كبير من حالة التراجع في مدى الاهتمام بالقضية الفلسطينية، راجع إلى قمع الأنظمة، ومشكلات الشعوب الاجتماعية والاقتصادية في ظل الأزمات الأمنية والسياسية
كما تعود إلى منظومة إعلامية رسمية تم وضعها في إطار صراعات الأنظمة والحكومات مع حركات ما يُعرَف بالإسلام السياسي، وجزءٌ كبير من محتواها، "شيطنة" المقاومة الفلسطينية، ووضع قطاع غزة بالكامل في خانة "العدو"، في ظل تسيُّد الحركات الإسلامية للمشهد هناك، وارتباط بعضها بالإخوان المسلمين، أو وجود علاقات بين بعضها وبين إيران.
وهذا يختلف جذريًّا عن ظاهرة معروفة إعلاميًّا بظاهرة "الصهاينة العرب"، أو "الليكوديين العرب".
فهذه الفئة الأخيرة تختلف عن موقف العوام ورجل الشارع العادي، الذي أصبح مقهورًا أو مشوشًا أو فاقدًا للاهتمام.
فالصهاينة العرب، أو كما يسميهم البعض بـ"حزب الليكود العربي" –لأسف التسمية– هم مجموعة من النخبة الإعلامية والسياسية، ورجال حكم سابقون أو حَالُون، لديهم موقف مبدئي سلبي إزاء القضية الفلسطينية، وشديد العداء تجاه التيار الإسلامي الذي يتسيَّد صورتها حاليًا، في مقابل ميل إلى جانب الكيان الصهيوني، باعتبار مصالح خاصة بأنظمة وحكومات، مثل مسألة صراع بعض الأنظمة الخليجية مع إيران.
وفي هذا الإطار، بدأ الإعلام المحسوب على بعض الحكومات في الحديث عن "الصراع العربي الإيراني"، وفيه الكيان الصهيوني حليفٌ، بدلاً من عبارة "الصراع العربي الإسرائيلي" التي نشأت عليها الأجيال السابقة.
وفي إطار هذه الأجواء، وتبدُّل الأولويات؛ فقد تهيَّأ الموقف تمامًا لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تفوّقت في تحيّزها للكيان الصهيوني، حتى على المؤسسة التقليدية التي تسيطر على السياسة الأمريكية من خلال مفاصلها الرسمية وغير الرسمية، والتي اعتادت تقديم كل أشكال الدعم للكيان الصهيوني.
وصعوبة الوضع في الوقت الراهن تكمن في أمرين. الأول، هو وجود إدارة أمريكية مُغالية في صهيونيتها، وتنتهج سياسة خارجية خرقاء بالفعل، لا تلقي بالاً لأية اعتبارات، حتى اعتبارات اللياقة الدبلوماسية، كما يبدو في تصريحات ترامب العلنية، وتغريداته عن دول وحكومات الخليج مثلاً، برغم أنهم –في ظاهر الأمر– حلفاء وثيقون للولايات المتحدة منذ عقود طويلة، مما يؤكد عليهم صفة "التبعية" وليس صفة "الحليف" الذي له مكانة أفضل وأكثر كرامة!
أما الأمر الثاني، هو ضعف الجبهة في الناحية الأخرى؛ ناحية الشعوب وحركات المقاومة؛ حيث هناك أولاً انقسام فلسطيني، يمنع الوصول إلى صورة فعالة من الحِراك، أيًّا كانت نقطة عدالة موقف وبواعث أحد طرفَي الانقسام.
وذلك يبدو في أبسط أشكال المقاومة الشعبية وأقواها مشروعية، وهي مسيرات العودة؛ حيث نجد الكثير من العنت والتشكيك من فصائل فلسطينية كبرى، لمجرد أن "حماس" هي التي تتصدر الصورة فيها!!
وبالتالي؛ فإن خيار المقاومة الشعبية الفلسطينية، بمختلف صورها، والذي هو الخيار الأمثل والأقرب للواقع والقدرة على التنفيذ ، والأكثر فاعلية كما يبدو في البيانات الرسمية الصهيونية عن الخسائر الاقتصادية والمجتمعية في مستوطنات غلاف غزة؛ حتى هذا الخيار يواجه الكثير من التحديات.
فهو أولاً غير مجمعٍ عليه فصائليًّا لأسباب سياسية ضيقة كما نعلم، بل ويُواجَه في الضفة الغربية بتعاون كامل بين السلطة الفلسطينية وبين سلطات الاحتلال الصهيوني، الأمنية والعسكرية، وثانيًا؛ لا يجد الإسناد الشعبي في دول الطوق لأسباب تتطلب جهدًا إعلاميًّا عميقًا لإزالتها.
وفي هذا الإطار؛ فإن أول خطوة في إسناد المقاومة الشعبية، تتمثل بإعادة إنتاج صورة الفصائل الفلسطينية التي تدعمها، والقضية بالكامل، وأي حراكٍ مرتبط بها، في المستوى الإعلامي.
أول خطوة في إسناد المقاومة الشعبية، تتمثل بإعادة إنتاج صورة الفصائل الفلسطينية التي تدعمها، والقضية بالكامل، وأي حراكٍ مرتبط بها، في المستوى الإعلامي
فمعركة المقاومة الشعبية، هي معركة صورة ذهنية، فهي ليست أداة سياسية تستغلها "حماس"، كما يقول إعلام الضد، بل إنها بعيدة كُل البُعد هم السياسة في الأصل؛ حيث هي أبسط وسائل التعبير عن الذات، والاحتجاج ضد الظلم، وصرخة تعبير عن آلام مليونَيْن من البشر مسجونين في أكبر معتقل سياسي في العالم، وهو قطاع غزة.
وبالتالي؛ فإن هذا يتطلب حراكًا واسعًا للغاية عبر وسائط الإعلام والتخاطب المختلفة، ومع الشعوب أولاً، لأنه من دون إسناد شعبي؛ سوف تزداد طوابير تشييع الشهداء، من دون كبير أثر .
على المستوى السياسي؛ فإنه من الأهمية بمكان في هذه المرحلة أن تعمل فصائل المقاومة الإسلامية والوطنية في قطاع غزة والضفة الغربية، والتي تتفق على أجندة واحدة، على تمتين جبهتها الداخلية، وتوسيع نطاق التنسيق في عملها.
وتشهد الجولات الأخيرة من المواجهات مع العدو الصهيوني، أن الفصائل التي تعمل من قطاع غزة، قد وصلت إلى مستوىً عالٍ من التفاهم والتنسيق، وربما لا تملك حتى بعض الجيوش في المنطقة غرفة العمليات المشتركة، والتي تُعتبر ثمرة سياسية مهمة وليست مجرد أداة عمل عسكرية وأمنية؛ حيث إنها تعبيرٌ شديد الأهمية على اتفاق فصائل كبيرة لها الأغلبية على المستوى الشعبي، مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي في فلسطين".
وفي الأخير؛ فإن المرحلة الراهنة تتطلب تعظيم أي مكتسب تم تحقيقه في السنوات الأخيرة، ورسم صورة ذهنية مخالفة لما بات شائعًا في الوقت الراهن عن القضية الفلسطينية، ومفاهيم المقاومة بصورها المختلفة، المسلحة والشعبية، من خلال إعادة إنتاج الخطاب الموجَّه إلى الرأي العام العربي، وخصوصًا في دائرة دول الطوق المحيطة بفلسطين.