في ليالي رمضان .. مآذن تتزين بالأنوار ومنابر تعاني الفرار

الرئيسية » بصائر الفكر » في ليالي رمضان .. مآذن تتزين بالأنوار ومنابر تعاني الفرار
muslims-youth

أوشك بدر رمضان على التمام، وقد تزينت له مساجد الأرض بالأنوار، إلا أن منابرها عانت من فرار شباب كنا نصطف خلف إمامتهم قديمًا، في مشهد يستحق التساؤل عن سبب عزوف جزء من الطليعة اليوم عن مجال الدعوة.

والناظرإلى تراجع دور الشباب في المجال الدعوي، قد يعتبره جزءاً من حالة السلبية التي يعاني منها كثير من يافعي اليوم؛ إذ تباعدت خطواتهم عن المنابر، والريادة في العمل الاجتماعي، والسياسي.

وربما يرجع بعض الباحثين سبب عزوف الشباب عن مجال الدعوة إلى الله، إلى سلبيتهم تجاه مسؤولياتهم المختلفة وعلى رأسها المسؤولية الدينية، في حين يعتبر آخرون أن تلك السلبية فُرضت عليهم بشكل أو بآخر عبر التضييق على التيارات الدينية؛ إلا أن ما لا يقبل مجالًا للخلاف هو استحقاق تلك الظاهرة للاهتمام بالدراسة لبحث سبل معالجتها.

فريضة مهمشة

وجدير بالذكر أن أزمة عزوف الشباب عن الدعوة قد تتعلق بشكل أساسي بالنظرة الخاطئة للمجال الدعوي، حتى من قبل الدعاة أنفسهم، فالكثير يعتبره مجالًا تطوعيًا يتعلق بمن فاضت مثاليتهم عن الحدود الطبيعية فتنزهوا لدرجة البدء في الإمامة، وهو ما تضحده آيات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

فتبيانًا لفضل الدعوة، يقول الله تعالى: }وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين{ [فصلت:33]، ويقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ) (رواه مسلم). كما يعتبر العمل الدعوي لب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اصطفى الله بها الأمة الإسلامية على غيرها.

ويقول الإمام ابن باز: "ليس بخاف على كل من له أدنى علم أو بصيرة أن العالم الإسلامي اليوم، بل العالم كله في أشد الحاجة إلى الدعوة الإسلامية الصحيحة، التي تشرح للناس حقيقة الإسلام .... وعند قلة الدعاة وكثرة المنكرات وغلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته".

ولمحاولة معالجة تلك الظاهرة، لابد من الوقوف على العوامل التي قد تكون من أهم أسباب تراجع الشباب عن التسابق في المجال الدعوي، لا سيما وأنه كان مجالًا للتباري بين اليافعين فيما سبق، ومكانة يعتز بها الشباب وذويهم، فماذا جدّ على حال الداعية لينفر الشباب من الوقوف مكانه؟

السابقون مسئولون

إن بعض النماذج الحالية للدعاة تتحمل قدرًا من المسؤولية تجاه النفور من المجال الدعوي ، بل وأحيانًا من طريق الالتزام ذاته؛ فالاستعلاء باسم الدين بات ظاهرة ملحوظة، نتلمسها في تكفير الآخرين، والتقليل من شأن المخالفين، فضلًا عن تكوين ما يشبه الحزبية في أوساط الملتزمين دينيًا.

كما وقع السمت العام للداعية، مؤخرًا، بين سنديان الوسطية الواصلة إلى حد التفريط، ومطرقة التشدد حد التضييق، فلا يزال بعض رجال الدين يطلّون في الألفية الثالثة بلغة وهيئة لا تتناسب مع العصر، وكأنما الالتزام يتركز في التقعر شكلًا وموضوعًا، والغلو في العبادة والمعاملة، متاجهلين هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك النقطة التي وضحها بقوله: "هلك المتنطعون" (رواه مسلم).

وقد أدى النفور من النموذج السابق إلى ظهور تيار يبالغ فيه القائمون على الدعوة بالمظهر، على غرار رجال الإعلام، ونجوم الشاشات، بل وقد نال ذلك الاهتمام الشكلي من الجانب الفكري المقدم، والذي في كثير من الأحيان غاب فيه الجوهر الديني والتعليمي.

كما ساهم في تعزيز السلبية الدعوية، الانقسام في الخطاب الديني عبر علو لغة التراشق بين المختلفين في المذهب أو الطريقة، وتخصيص خطب الجمع والأعياد لتفنيد حجج علماء سابقين، أو مهاجمة أئمة حاليين، أو تكفير تيارات فكرية، لا سيما وأن ذلك الانقسام قد تلون في كثير من الأحيان بمأساة الاستقطاب السياسي، فتاهت الخطوات عن الطريق تمامًا.

من الأمور التي ساهمت في تعزيز السلبية الدعوية، الانقسام في الخطاب الديني عبر علو لغة التراشق بين المختلفين في المذهب أو الطريقة، وتخصيص خطب الجمع والأعياد لتفنيد حجج علماء سابقين، أو مهاجمة أئمة حاليين، أو تكفير تيارات فكرية

أزمة مجتمعية

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن قطاعًا واسعًا من المجتمعات العربية، قد تحول إلى بيئة طاردة للمجال الدعوي، والتيار الإصلاحي، إما بالنبذ والتسفيه باتهام الملتزمين دينيًا بالتخلف أو قصر الرؤية عن متطلبات العصر، وطموحات الواقع، وإما بتحميلهم أعباءً تفوق طبيعتهم البشرية، باعتبارهم وعّاظًا لا ينبغي أن تصدر عنهم أي أخطاء، وكأنهم باختيارهم لمجال الدعوة قد غيّروا فطرتهم التي جبلهم الله عليها، وأصبحوا مطالبين بالكمال!

وفي الإطار ذاته لا يمكن إغفال التضييق الأمني على الدعاة، ودوره في الهروب من المنابر، لاسيما في ظل تسييس الخطاب الديني بشكل ممنهج، والذي انعكس في كثير من الإجراءات، كتوحيد الخطب، وسجن بعض الدعاة لرفضهم قرارات سياسية معينة .

كما أن المنظومة التعليمية، ساهمت في النفور من مجال الدعوة، وتشويه الخطاب الديني؛ إذ إن المعاهد والكليات المتخصصة في تدريس العلم الشرعي، في كثير من القطاعات تتطلب أقل المعدلات التحصيلية من طلاب الثانوية للالتحاق بها، ولا تعتمد على مدى الإدراك أو الوعي أو ملاءمة الطالب لمجال الدعوة، وبذلك فإنها تضم في كثير من الأحيان أقل الطلبة تحصيلًا للعلم ودأبًا على الدراسة، وهو ما يؤثر على الدعاة المعتمدين للعمل رسميًا في مجال الوعظ الديني، فضلًا عن تأثيره على الصورة الذهنية للداعية في المجتمع.

ولا شك أن النظر في الأسباب المجتمعية والتعليمية التي قد تكون مسؤولة عن عزوف الشباب عن مجال الدعوة، لا يعني بحال من الأحوال انعدام مسؤوليتهم تجاه ذلك، بل إن واقعنا اليوم ينذر بجيل من الشباب يفتقر إلى ثقافة المسؤولية بعامة، والدينية منها بخاصة.

كما أن كثير منهم قد انساق بشكل كبير خلف متطلبات العصر، مفتقرًا إلى الرؤية الجامعة بين التطبيق لممارسة المسؤوليات الدينية، والاستمتاع بالمطامح الدنيوية، فضلًا عن اختلاط المفاهيم وغياب الثقافة الدينية لدى كثير من اليافعين، وربما بعض المتخصصين نظريًا منهم، في مجال الدراسة الشرعية.

متطلبات الواقع

إن الحديث عن ضعف معين في إحدى الجوانب الإصلاحية، وعلى رأسها المجال الدعوي، لا يعني بحال من الأحوال افتقار الأمة إلى الكوادر المؤهلة لقيادة الصف، بل إن بعض الشباب اليوم يتوجهون إلى الدراسة الشرعية، والدعوية بكامل اقتناع، وتمام تحمل للأمانة؛ إلا أننا بحاجة لتطوير ذلك القطاع، سواء بمواكبة الخطاب الديني للعصر في أساليبه وليس مضمونه، أو في متطلبات الالتحاق بالمجال الدعوي .

كما أنه في ذلك المجال، لا يمكن إغفال الدور النسائي وماله من أهمية وتأثير؛ فقد أثبت تأثيره في مصاطب العلم في المسجد الأقصى، كما أولى الأزهر له اهتمامًا خاصًا، سواء بالدورات التدريبية، أو التعيين والتوزيع في المحافظات المختلفة.

وإذا ماكان التصلب والتقوقع في القوالب القديمة للدعاة أحد أسباب تراجع المجال الدعوي، فلا شك أن تطوير الأساليب أصبح ضرورة وقتية لابد منها، عبر استغلال القنوات التلفزيوينة والإذاعية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومجال الرسوم المتحركة لاستقطاب الأطفال، والمسلسلات الدرامية، وغير ذلك من الوسائل.

وأخيرًا .. فإن كان مجال الدعوة يعاني فرار الشباب منه، فحسب المتمسكين بالمنابر، الداعيين إلى دين المصطفى صلى الله عليه وسلم، استجابتهم لأمر النبي بقوله: "بلغوا عني ولو آية" (رواه البخاري).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
باحثة مصرية في شؤون الصراع العربي- الصهيوني والقضية الفلسطينية، حاصلة على ليسانس الإعلام من جامعة الأزهر بالقاهرة، كاتبة ومحررة في عدد من المواقع العربية

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …