القيادة المتمثلة بقائد بُنيت شخصيته بفكره وقلبه بناءً دقيقاً على تعاليم الدين الحنيف لهي الأساس الأول لإقامة الدين ونشر رسالة الإسلام وحماية البلاد والعباد.
غير أنّ هذا الأساس لا بد له من دعامة أساسية وهي الجندية التي تسير معه على خطٍ مواز تماماً كما جناحي الطير. فما نفع قيادة بلا جند يكونون لها الذراع العامل، وما فائدة جند بلا قائد يوجه ويخطط وينظم ويرفع اللواء ؛ ليجمع تحت ظله جنوداً باعوا لله الغالي والنفيس، فإما نصر وعزة وتمكين، وإما شهادة ورقي في عليين، فيتشاركون الغاية والوسيلة كل وفق ما أمده الله به من وسع وأسباب.
والمراد بالجندية هنا: مجموعة الرجال القادرين غير المعذورين في الدولة الإسلامية سواء كانوا عسكريين أم مدنيين، إذ كل رجل في الإسلام ممن ذكرت جندي تحت السلاح، يحمل سلاحه إذا اقتضى الأمر، ويخوض المعارك إذا جد الجد" (القيادة والجندية ص73). وما سوى هؤلاء فكل جندي في وظيفته ومجاله الذي أقامه الله به، فالموظف حيث وظيفته، والطبيب حيث مهنته، وإلى ما ذلك.
وعلى هذا فالحقيقة أن كل فرد من أمة الإسلام هو جندي يقيم على ثغرة، ومقتضى جنديته مجال سعيه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم إلا وهو قائم على ثغرة من ثغر الإسلام، فمن استطاع ألا يؤتى الإسلام من ثغرته فليفعل" (رواه المروزي في السنة).
ومنذ القدم أدرك الناس أهمية وجود جيش لكل دولة يرابط على ثغورها ويذود عنها ويحقق لها مكاسبها الدنيوية فهذا متعارف عليه بين كل الأمم، غير أنّ بين الجيش أو الجندية في الإسلام وبين الجندية في الأمم الأخرى بوْناً شاسعاً يدركه من يقف على صفحات التاريخ، فالفرق بيّن وواضح سواء كان في الأهداف أو الدوافع أو الأسلوب والنهج.
وانطلاقا من غاية مقصودة كان من أول الأعمال التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسى قاعدة الإخاء بين المهاجرين والأنصار لدرجة أن أصبحوا على اختلاف قبائلهم ومشاربهم ومنابتهم على قلب رجل واحد، فشرع يؤسس للدولة الجديدة التي كانت الميلاد الجديد لحقبة من الزمن بل لإرساء أسس جديدة على آثارها اختلفت المعايير وانقلبت الموازين.
فكانت الدولة الناشئة بقيادة النبي الرسول وصفوف الجند أنصاراً ومهاجرين، وكانت البداية وهي تحقيق إرادة الله على وجه الأرض في هذه الحياة الدنيا وهي تبليغ رسالة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" (البخاري).
فقد كانت رسالة الإسلام للناس كافة بغض النظر عن ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، وكان لا بد من وجود من يتحمل أعباء هذه الرسالة ومسؤولياتها وتبليغها وتنفيذ أمر الله فيها، ولن يتحمل ذلك أفراد دون إطار يجمع شملهم ويرسم لهم خطواتهم ويبيّن لهم أهدافهم ولا سيما في ظل وجود قوى عظمى ستتصادم الرسالة مع مصالحهم ومآربهم، فكان لابد من الجندية التي تتولى تمهيد السبل أمام الرسالة الجديدة وتذليل الصعاب وإماطة العثرات أمامها، لذا كان على عاتق الجندية تحقيق أمر الله وحتى تحقق أمر الله كان لا بد من ملامح تميزها عن غيرها من الجيوش أو الجندية، وهي:
1. حسن الصلة بالله.
2. النصر معقود بلواء هذه الجندية فهزيمتها نتيجة للمعاصي والمخالفات.
3. قتال الجندي المسلم يكون لنشر الدعوة وإقامة العدل ومقاومة الطغيان، وهذا ما لم تعرفه الجيوش عبر التاريخ.
واجبات ينبغي الالتزام بها
الحق ضعيف ما لم تسانده قوة تحيط به وتجتث العثرات التي تعترض بلوغه لكافة الناس في أنحاء الأرض
وعلى هذا فإن ثمة واجبات على الجنود يلتزمونها حتى يستطيعوا أن يلتفتوا لمهمتم وينتشروا في مناكب الأرض ليحققوا أمر الله، إذ إنّ الحق ضعيف ما لم تسانده قوة تحيط به وتجتث العثرات التي تعترض بلوغه لكافة الناس في أنحاء الأرض، ومن هذه الواجبات:
1. الولاء والتناصر لقوله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة:آية22].
فالولاء لا يكون إلا بين من جمعتهم رابطة العقيدة وما سوى ذلك لا اعتبار له ولا وجود لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [سورة الممتحنة: آية1]، فالعقيدة هي أساس الولاء والذي كانت ثمرته المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، ويؤكد هذا المعنى من لا ينطق عن الهوى بقوله:"سلمان منا أهل البيت" (رواه الحاكم في المستدرك).
2. الالتزام وهو ما يعرف باسم (الضبط والربط) بمعنى أنّ الجنود يجب أن يكونوا وقّافين عند حدود الأوامر والنواهي، فلا يخالفون أمراً تصدره القيادة، ويعود الفضل للإسلام في ضبط سلوك الجنود فلم تعد تصرفاتهم عشوائية صادرة عن الهوى والرغبة، فالالتزام بأوامر القيادة الإسلامية ممثلة بإمام المسلمين أو من ينوب مكانه من أهم صفات الجندية والسبيل للفوز والفلاح لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء: آية59]، وما غزوة أحد ومجرياتها إلا نموذج على أهمية الالتزام.
ولابد من التنويه على قضية أنّ الطاعة إنّما تكون في المعروف، إذ ليست الطاعة العمياء التي تصور للناس أنها المقصودة، فالإسلام لا يرضى لأتباعه العمل بلا علم أو فكر وإنما يلزمهم أن يكونوا على بصيرة من أمرهم.
الطاعة إنّما تكون في المعروف، إذ ليست الطاعة العمياء التي تصور للناس أنها المقصودة، فالإسلام لا يرضى لأتباعه العمل بلا علم أو فكر وإنما يلزمهم أن يكونوا على بصيرة من أمرهم
والدليل على أنّ الطاعة المقصودة هي الطاعة الراشدة الواعية القائمة على بصيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية فاستعمل عليها رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب. فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطباً. فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً. فأوقدوها، فقال: ادخلوها. فهمّوا وجعل بعضهم يمسك بعضاً ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النّار! فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة الطاعة في المعروف" (رواه البخاري).
3. حماية الإسلام والدفاع عنه وبعد أن يتحقق الولاء والالتزام يأتي هذا الواجب عقبهما، فإن نشر الإسلام والدفاع عنه والذود عن قيمه ومبادئه والموت في سبيل تمكينه لا يتأتى ذلك كله إلا ممن تحقق فيه الولاء للقيادة والالتزام بأوامرها.
حقوق ينبغي مراعاتها
وحتى يؤدي الجندي ما عليه من واجبات، فلا بد له من حقوق وفرها له الإسلام القائم على العدل، بحيث تعينه على أداء مهمته على أكمل وجه وتتلخص هذه الحقوق بالآتي:
1. الرفق بهم، فعلى القيادة الحكيمة أن ترفق بجنودها ولا تلقي بهم إلى التهلكة، ولا تكلّفهم فوق ما يطيقون، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا عزل عن شيء إلا شانه" (رواه أحمد).
2. احترام آرائهم، فأي مسلم إنما هو على ثغرة من ثغور الإسلام ولن يحافظ على ثغرته من تربى تربية هشة وله شخصية مضطربة لا تتحرك إلا كما تتحرك الآلة، كلا فالإسلام لا يربي أتباعه على هذا وإنما صقل شخصياتهم واحترم آراءهم وجعل لكل قيمته، وكيف لا يحترم رأي من يحمل روحه على كفّه فداء لهذا الدين !
وهل يعطي جندياً ولاءه والتزامه إلا لقائد عرف له حقه وأعلى من شأنه وشاركه الرأي والمشورة!
وهل نزول النبي صلى الله عليه وسلم عند رأي الحباب بن المنذر لاتخاذه موقعة بدر أرضا للمعركة، والأخذ بمشورة سلمان في حفر الخندق، إلا نماذج يحتذى بها على احترام رأي الجند ومشاركتهم القرار والمصير؟!
3. القيام على مصالحهم، وهل يخضع الناس للحكومات عن رضى وطواعية إلا لثقتهم بأنها تعمل على تحقيق مصالحهم على كافة المستويات الدينية والدنيوية، وهل يلتزم جندي صف الجندية إلا بعد أن وثق بأن قيادته تهتم بمصالحه وتراعي حقوقه وتعمل على حمايتها وتوفيرها، فيطمئن لهذه القيادة؛ لأنه يعلم يقيناً أنها لن توليه ظهرها ولن تتجاهل مصالحه وستوفي له حقوقه كما أدى واجباته لها عن طواعية.
الجندي لا يلتزم صف الجندية إلا بعد أن وثق بأن قيادته تهتم بمصالحه وتراعي حقوقه وتعمل على حمايتها وتوفيرها
ولقد ذكر الوكيل أهم المصالح التي على القيادة القيام بها للجنود وهي:
1.الأمن النفسي والجسمي.
2.الرخاء المادي والمعنوي.
3.التعليم بكافة أنواعه.
وبناء على ما سبق وعندما يقوم كل جانب بأداء ما عليه من واجبات وأخذ ما له من حقوق، تستطيع القيادة أن ترسم طريقها إلى النجاح وأن تحافظ على ولاء وثقة جندها عندما تحرص على إيجاد مناخ صالح بينها وبين جندها قائم على التعاون والمحبة والثقة والتناصح ، ملتزمة العدل في سلوكها وتصرفاتها، فلا تحابي شخصاً على آخر، فديدنها العدل في كافة أمورها، عند ذلك يتفانى الجند في العمل تحت إمرة قيادة هي نسبة لهم منزلة الرأس من الجسد، وقيادة النبي لجند المسلمين الأوائل لهي أروع الأمثلة على متانة العلاقة بين القادة والجند، ولهي مثال واقعي حي وصفحة مشرقة شهد لها العدو قبل الصديق، فمن أراد التمكين والعزة والنصرة ما عليه إلا أن يحذو حذوه ويجلس ليتعلم فن القيادة والجندية على حد سواء.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- القيادة والجندية في الإسلام، محمد السيد الوكيل.