تمرُّ السنوات أسرع عاماً بعد عامٍ برغم أن الزمن يمر بنفس القانون وذات الترتيب، وهذا عائد بشكل رئيس على التطور العمراني، الحضاري، والتكنولوجي على وجه الخصوص، ولأن المهمة الواحدة قد تستغرق أياما كاملة أحياناً، يبدو العمر بلا قيمة والزمن أسرع وأسرع.
اليوم نقف على أعتاب أواخر رمضان، مع أننا قبل أيام مرّت كغمضة عين كنا ندعوا: "بلغنا رمضان يا رب" ثم بعد أيام تمر كرفّة عين أسرع سنقول: "لا أوحشنا الله منك يا رمضان" ولكن ستطوى الصفحة سريعا ونفاجأ وقد مر عام آخر واقترب رمضان القادم ولم نستعد له بعد كما يجب.
في هذا المقال أقدم عدة لفتات محبّة من أصحابها تهدف لجعل رمضان موسم تنمية وفرصة زيادة في كل جوانب الحياة وليست نقطة بداية تتكرر في كل عام كما يعيد أحدهم الاستماع إلى ذات المحاضرة أكثر من مرة ويكاد لا يخرج منها بأية فائدة، وهي ليست وعظاً ولا تنظيراً بقدر ما هي واقع تجارب حياتية مختلفة لأناس اجتهدوا ليعيشوا رمضان مثمراً أكثر في كل مرة.
1. اكتب كل شيء:
يقول فلان: أهم وأفضل نصيحة يمكن أن توجه لمن يرغب بالتنمية هي كتابة كل شيء ووضع خطة، أهم شيء فعلته واختلفت كل رمضاناتي من بعده هو كتابة كل ما أفعله، وهنا لا أقصد وضع خطة، إذ إن الأمر أشبه بالتدوين اليومي البسيط منه بالتخطيط.
فليفرد كل شخص دفتراً خاصاً يدوّن فيه كل ما يفعله خلال رمضان، كم آية فهم وطبّق، كم كتاباً قرأ، كم فائدة حصل عليها... إلخ. وذلك لتكون خطوته القادمة مبنية على الخطوة المسجلة وليست تكراراً طبق الأصل.
2. تعامل مع القرآن بطريقة جديدة دوماً:
يقول فلان: كل عام يتسابق الناس في مرات ختم القرآن، وجدت نفسي أقرأ قراءة سريعة لأكون الأوفر والأثرى في عدد الختمات، بينما لا أتدبر، أمر على كلمات لا أفهم معانيها فأتجاوزها لأسبق الآخرين، وتثير فضولي بعض التفاصيل والقصص فأتجاهل فضولي كي لا يتجاوزني منافس! ثم ماذا؟ في الحقيقة ثم لا شيء!
أنا أرجو أن يتعامل الناس مع القرآن بقرب أكثر ، حين وقفت مع نفسي وقفة محاسبة لأول مرة، نويت أن يكون رمضان هذا لمراجعة ما أحفظه من سور وآيات، وقد داومت عليه، إلى أن صرت أردد في التراويح ما أحفظه وأكرره كي أثبّت حفظي، في العام التالي بدأت أحفظ كل يوم تفسير آية أو سورة قصيرة، وأقرأ قصص أسباب نزول الآيات، وأربط بين الأحداث وأسجل استفادتي، بعد 3 سنوات حفظت القرآن كاملاً بتفسيره وأسباب نزول آياته الكريمات.
3. حافظ على لفتة نوعية – مهما كانت صغيرة - في عبادتك:
يقول فلان: كنتُ في كل رمضان أجمع بعض أطباق الأكل من بيوت الحي شاركني لاحقاً بعض السكان والجيران ونضعها على طاولة في دِكّة باتت معروفة بمائدة رمضان الخيرية، مع كل مغرب تفوح منها روائح شهية، يمر الفقراء والمحتاجون فيأخذون ما طاب لهم بدون إحراج.
وصرت أجتمع مع الجيران المساهمين قبل رمضان لنفكر بطرق أخرى لتنمية ذلك النشاط، وبتنا في كل عام نزيد شيئاً جديداً ونعلّم حيا جديداً: أحدنا يزوّد المسجد بالكراسي الجديدة، آخر يجدد ثلاجات الماء في المسجد، ثالث يوزع المياه والتمر في سيارات الأجرة وباصات المواصلات، وغيره يجدد المصاحف، أضفنا صندوق تبرعات وصدقات يغطّي تكاليف كسوة العيد للأطفال المحتاجين، كما شاركنا الجميع بتكوين أسرة رمضانية كبرى في حيّنا يشعر أحدها بالآخر، ولا يبيت مرتاحاً بينما جاره يتألم، ولم نغفل الطيور والحيوانات الأليفة فكان لها نصيب من تفكيرنا لنترك فوق الأسطح وفي الشرفات بعض الماء والطعام لأجلها، أصبح رمضان اليوم – كما يجب أن يكون - حقلاً لاستنبات كل بذور الإنسانية والخير فينا .
4. تمسّك بأحسن العادات التي اكتسبتها ثم زد رصيدك منها:
يقول فلان: لاحظت نجاحي في التخلي عن المنبهات والسجائر لأوقات طويلة في نهار رمضان قبل بضعة أعوام، وثابرت لاستغلال هذا الإقلاع الجزئي عن التدخين والكافيين الكثير.
عانيت لمدة عامين كاملين في تثبيت هذه القدرة، لكنني نجحت بكفاءة في تقنين شرب المنبهات وتناول الطعام أيضاً، وقاطعت التدخين بعدها تماماً!
وكذلك فعلت مع النية التي كانت لا تتعدى صوم الشهر وقيامه، بدأت في كل عام أفكّر في نوايا جديدة أضيفها إلى نية الصيام والقيام وإرضاء الله، فأشعر بالعطاء المضاعف والسريان الكثيف للطاقة المتجددة في أوصالي: كأن أهب أجر صيامي لمن رباني، أو أن أُفطر الصائمين ولو بشربة ماء وتمرة، أواصل إحياء سنة... وغيرها الكثير جداً.
مثل ذلك فعلته مع صلاة الوتر والنوافل – مع أن الأمر أعظم من كونها مجرد عادة – لكن تربوياً ونفسياً فإن طبيعة النفس البشرية تتعود ثم تلتزم وتحب وتتمسك وتتعلق وتتبع معنى الأشياء وقيمتها؛ لذلك أضيف ذلك البند إلى العادات، فلم أكن متمسكًا بالنوافل من قبل وخصوصاً بركعة الوتر على أهميتها، ولمّا وجدتني أتحمّل في رمضان يومياً أكثر من 50 ركعة تقريباً بهمة كبيرة، عوّدت نفسي بالتدريج على الالتزام بنصف ذلك العدد ثم ثلثيه... حتى وجدت نفسي أزيده في رمضان عامًا بعد عام وأحسّنه وأتحسّن وتتحسن حياتي.
طبيعة النفس البشرية تتعود ثم تلتزم وتحب وتتمسك وتتعلق وتتبع معنى الأشياء وقيمتها
5. سلّم رمضان دفة قيادة وقتك وتقسيمه:
يقول فلان: يطوّع رمضان أوقاتنا ويقسّم مهماتنا بطريقة ناجحة جداً، لا أخالفك في أن البركة تُحدِثُ فرقاً، لكنني لمست هذا جدياً بعد تجربة وهو تقسيمة ربانية أكملت بها عامي كله ، ثم لم أجد فرقاً ولا اختلافاً يخلق معاناة في رمضان اللاحق، ولم أعان مع برنامج النوم أو الساعة البيولوجية وغيرهما.
لا تخش أن يفقد رمضان هيبته وخصوصيته؛ لأن الهيبة والخصوصية ليست في تقسيم الوقت وحسب بل في الأجواء الروحانية، والطاقة الإيجابية لرمضان، الصلات والاجتماعات والأخلاق الجميلة ... وغيرها الكثير.
لم تعد تمر ليلة إلا وشعرت بقيمة اليوم وقيمة العلاقات الطيبة وقيمة حياتي ووجودي أكثر، طبّقت نظام الصوم المتقطع الذي يتخلله الماء فتحسنت صحتي ووزني وصفاء ذهني، بين الفجر والظهر يكون أعظم وقت للتفكير والإنجاز عندي، وقد تضاعف إنجازي وإنتاجي كثيراً بعد هذا التقسيم، وحين عاد رمضان بعد عام، لم أشعر بإرهاق، ولم يزد سوى عبادات ذات خصوصية وحضور روحاني له بريقه الخاص.
6. استثمر التكنولوجيا بقدر استطاعتك:
يقول فلان: في أول رمضان عشته وأنا أمتلك هاتفاً ذكياً، كان عمري 18 عاماً، وكنت ككل أبناء جيلي شغوفاً بالتطبيقات – هذه الصرعة الجديدة التي تنافسنا في اكتشافها طويلاً أنا وأصدقائي، ولأن عصرنا ومستقبلنا متعلق كثيراً ومرتبط بهذه التكنولوجيا فقد كنت أفكر دوماً في متابعة جديدها واكتشاف أسرارها.
لم يكن يشغل بالنا هدف هذه الأجهزة كثيراً إلا أن أحد معلمينا – والذي يعرف شغفنا ذاك - طلب منّا توفير تطبيقات يمكن استثمارها في رمضان كي نقدمها ضمن برامج رمضانية للشباب في الخيمات الرمضانية ومن هنا بدأت حكايتي مع رمضان المختلف.
وبدأت أجمع التطبيقات ثم أستوحي الأفكار من خيال المحيطين وأفكارهم وأمنياتهم، تعلّمت برمجة التطبيقات، وحولت بعض الأفكار إلى تطبيقات ملموسة تستخدم، طوّرت تطبيق الأذان الرمضاني، التخطيط اليومي في رمضان، مفكرة تدوين المنجزات والتذكير بالمواقيت، الإمساكية الرمضانية الذكية، أماكن موائد الرحمن على الخريطة، تطبيق صدقات وأعمال خيرية بدون مقابل يقدمها المهنيون والحرفيون بعدة أشكال، مثل: كشف طبي، مواصلات، تقديم مساعدات عينية ونقدية، ملابس العيد والمهن المختلفة...
ومذ ذاك وفي كل رمضان صرت أبتكر فكرة وأطبقها ولو بشكل جزئي؛ لأضيف لرمضان معنى مع التكنولوجيا التي غزت حياتنا.
7. ابن دوما على ما أنجزته ولا تكرر:
يقول فلان: يتعلم الإنسان من ألدّ أعدائه ما لا يتعلمه من أقرب وأحب الناس إليه وأحرصهم على مصلحته أحياناً ، وهذا ما حصل معي فعلياً.
كنت أراقب الإعلام في رمضان وما يبثه وكيف يبني كل الأفكار الجديدة على أساسات قدمها سابقاً، وهو واثق تمام الثقة بأنه سيقع في الموقع الذي يريده بالضبط في النفس البشرية وعقول المتابعين فيربط الأمور ببعضها ويوجه الأشياء.
لقد تعلمت من بعض القنوات الإعلامية الموجهة الانتقاء، واستغلال طاقة رمضان على الاستيعاب فأصبحت بعد 5 سنوات فقط أشبه بموسوعة بشرية أو مكتبة متنقلة.
ما الذي فعلته؟
في أحد الرمضانات قرأت دعوة أحدهم لمنافسة قرائية لعدة كتب خفيفة وأنا معتاد على القراءة شغوف بها ولكنني أتجاوز هذا الشغف لأفرد رمضان للذكر، لكن تلك المنافسة لامست شرارة التحدي بداخلي فتحديت وكسرت الرقم القياسي ولم أقصر في العبادة بل تفوقت.
قننت الأمر واستخدمت كل مهاراتي في صقل هذا الاكتشاف إلى أن أصبحت أبني على معارفي التي اكتسبتها فأصعد في انتقائي لمستوى المعلومات والكتاب المقروء، وأتعمق في اكتشاف ما قرأت سابقاً، وأستبدل وقت الترفيه بالقراءة والاطلاع والاكتشاف والبحث وتعلم الجديد من لغات ومهارات وخبرات وطرق تنمية وتقوية وانطلاق وتقدم.
مرة سألت نفسي سؤالاً: ماذا سيحصل يعني لو مر رمضان بدون أي ترفيه، ماذا يعني أن يمر شهر بدون ترفيه، ثم... هل يحتاج هذا الشهر السريع إلى ترفيه؟ لا أظن!
هنا عرفت كم من الوقت كان يضيع هدراً في الترفيه خلال شهر محبوب وعامر بالرضى والسعادة التي كان يعميني عنها الإعلام بحجة الترفيه.
كم من الوقت كان يضيع هدراً في الترفيه خلال شهر محبوب وعامر بالرضى والسعادة التي يعمينا عنها الإعلام بحجة الترفيه
أخيراً...
هذه التجارب حقيقية وهي لشباب يعيشون بيننا، وهي همسات ولفتات أنقلها إليكم بكل ثقة ومحبّة، لعلها تكون معيناً في نقل طاقة رمضان إلى العام كله، ثم الدخول إلى كل رمضان جديد بهمّة أكبر وبأهداف أهم، تستكمل مسيرة الارتقاء وتحفزنا للمزيد.