من أبرز المشكلات التي تواجه هذه الأمة عموماً والحركات الإسلامية خصوصاً، أنها لا تملك مشروعاً تفصيلياً واضحاً تحقق من خلاله التقدم والإصلاح في الجوانب المختلفة، وهو ما يوقعها في بعض الأحيان في التناقض والاضطراب، أو أن تكون مشاريعها عبارة عن ردات فعل لأحداث معينة تواجهها، وهذا كله نتيجة غياب الدراسات المستقبلية، واستشراف ما سيحصل لاحقاً.
وفي الوقت نفسه نرى الغرب يبذل جهوداً واضحة، وينفق أموالاً طائلة لدراسة المستقبل، عبر مراكز الأبحاث والدراسات، التي يتثمل دورها برسم الخطط، وإعداد الكوادر، ودراسة التحديات والمشاريع المستقبلية التي تساعد الدولة على رسم سياستها للفترات المقبلة، وكيفية مواجهة التحديات والعوائق، وسيناريوهات حدوثها وتأثيراتها.
ونظراً لذلك، تشهد أمتنا العديد من الدعوات التي تنادي بضرورة دراسة المستقبل، تحت ما يسمى بالدراسات الاستشرافية، أو المستقبلية، أو شرعاً بفقه التوقع، أو الاستشراف، أو غير ذلك.
ويعتبر هذا الكتاب –كما قال المؤلف- محاولة لتقديم نظرات شرعية حول دراسات المستقبل، تضبط حركة هذه الدراسات، وتعمل على تحقيق الانسجام مع كليات الشريعة ومقاصده.
مع الكتاب
قسم الكاتب الكتاب إلى تمهيد، و ثلاثة فصول رئيسة. وفيما يلي توضيح كل منها.
التمهيد: في تشوّف الإنسان لمعرفة الغيب والطرق المسلوكة لذلك
أشار الباحث إلى أن أن الله تعالى قد استأثر بعلم الغيب، فلا يعلمه أحد سواه، وقد أطلع الله بعض عباده على شيء من الغيب ليكون دليلاً على النبوة وصدق الرسالة قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} [الجن:26-27].
والغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه هو ما لا يمكن إدراكه بالحس، ولا بالتجربة والمقايسة . ولهذا فكل ما يقع في المستقبل مما لا يرتبط بالتجربة والمقايسة ونحوهما، يعتبر من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
والإنسان مفطور على التطلع إلى المجهول، والتشوّق إلى معرفة المستقبل، والتشوّف إلى إدراك ما سيصير إليه حاله، والاستعداد له ليكون مستقبله مناسباً له، ولهذا سلكت البشرية مسالك عدة لتحقق تشوّفها لمعرفة الغيب، وهي تصنف إلى قسمين:
1- الطريق المقطوع بصحته وهو ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
2- الطرق غير الصحيحة، وهي الطرق غير المشروعة، التي لا يظهر لها ارتباط بالإدراك المحسوس أو المعقول، ومنها: الاعتماد على الكتب السابقة (التوراة والإنجيل)، أو سير النجوم، أو الرؤى والمنامات، أو الأحاديث والآثار الضعيفة، أو حساب الجمّل، وهي مصادر لا تعتمد في معرفة المستقبل. لأن الاعتماد عليها ينتج الكثير من الخرافات والأساطير والاعتقادات الفاسدة.
الفصل الأول: في مفهوم الدراسات المستقبلية
ويطلق عليها أيضا: استشراف المستقبل، ورؤية المستقبل، وارتياد المستقبل.
والاستشراف ليس مجرد رسم تخيلات مستقبلية يضيف بها الإنسان إلى معارفه ويرضي بها النزعة البشرية التوّاقة إلى كشف ستر الغيب، وإنما يتناول مشاهد المستقبل وتوقعاته المطروحة في أذهاننا، وإلى إعادة قراءة الواقع بكل جوانبه، الحضارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بالقدر الذي يخدم إمكانية التعرف على ما يقدر أنه وضع مرغوب، وعلى آليات الوصول إلى ذلك.
والدراسات المستقبلية أمر لا غنى عنه لكل المجتمعات، فهي تنبهنا إلى صور المستقبل المحتملة والممكنة، وهي تشير إلى جوانب ومصادر للخطر غير متوقعة اليوم، كما تشير إلى مصادر للقوة والحيوية ليست ظاهرة اليوم أيضاً.
الدراسات المستقبلية أمر لا غنى عنه لكل المجتمعات، فهي تنبهنا إلى صور المستقبل المحتملة والممكنة، وهي تشير إلى جوانب ومصادر للخطر غير متوقعة اليوم، كما تشير إلى مصادر للقوة والحيوية ليست ظاهرة اليوم أيضاً
ويؤكد المؤلف على أن درجة نجاح التنبؤ تعتمد على وفرة المعلومات ودقة ملاحظة التغيرات، فالأمر مرهون بالقدرة على إدراك عناصر التغيّر، وعلاقتها ببعضا البعض. إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن هذه التنبؤات عرضة جداً للخطأ – كونها قائمة على الجهد البشري- ولكنها مع ذلك أفضل من عدم وجود أي دراسة أو تنبؤ.
ويفرق الباحثون في مجال هذه الدراسات بين الدراسات الاستطلاعية التي تعنى ببيان المستقبل المتوقع وهو ما يتوقع أن يؤول إليه واقع معين، وبيان المستقبل الممكن وهو البدائل التي يمكن حصولها في المستقبل في حال تدخل معين، وبين الدراسات المعيارية التي تعنى ببيان المستقبل المرغوب فيه، وهو المصير الذي تأمل الأمة أن تصير إليه بعد إحداث تغيرات في ظروف الواقع.
الفصل الثاني: في مشروعية الدراسات المستقبلية
يشير المؤلف إلى أن الإسلام قد أولى عناية بارزة بالمستقبل وهناك العديد من الأدلة التي تدل على مشروعية ذلك.
فالقرآن مليء بالدعوة إلى التفكر في الأرض والسماء والأحياء والأنفس كقوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [يونس:101]، وقوله: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة} [الروم:9].
والله عز وجل أمر بالاستعداد لما سيأتي فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال:60].
وقد استخدم ورقة بن نوفل الاعتبار بالسنن الكونية لمعرفة المستقبل، ومثاله حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي" (رواه البخاري ومسلم).
وكذلك الحال في باب سد الذرائع في أصول الفقه، فقد حُرمت بعض الأمور لأنها تفضي إلى المفسدة، والإفضاء أمر غيبي وقد لا يعلم تحققه قطعاً، وإنما هو نظر إلى مآلات الأمور بحسب العادة الجارية، وهو نوع من الاجتهاد المبني على التطلع لما سيكون.
ومن الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم" (رواه البخاري ومسلم).
أما حكم القيام به فهو فرض كفاية على الأمة، فيجب على الدولة المسلمة إعداد دراسات مستقبلية أو تكليف جهة موثوقة تتولاها بحيث تحصل الكفاية بعملها ، كما يجب على الأمة بمجموعها إعداد دراسات مستقبلية توجه القوى الفاعلة فيها إلى فعل ما يجب عليها، وبذل جهدها في إعداد الكوادر القادرة على ذلك.
الفصل الثالث: ضوابط وموجهات للدراسات المستقبلية
ذكر المؤلف العديد من الضوابط المتعلقة بالدراسات المستقبلية، وفصّلها على النحو الآتي:
أولا: الضوابط العمومية:
1- الانضباط بالكتاب والسنة.
2- ملاحظة السنن الكونية.
3- ملاحظة السنن الشرعية.
4- اختيار وحدات تحليل تمثل التوجه الإسلامي.
5- أن تكون مبينة على قرائن ودلائل يمكن الاعتماد عليها.
6- التعمّق في فهم الواقع.
7- الحذر عند استعمال المصطلحات.
8- عدم الجزم بنتيجة الدراسة.
9- لا يجوز ترك الواجبات الشرعية ولو كان المستقبل سيئاً.
10- المعرفة بطبيعة الإنسان.
11- الإيمان بالقضاء والقدر.
12- أن يكون الدافع للدراسة رضى الله تعالى.
13- مراعاة أدبيات منهج البحث العلمي.
ثانياً: ضوابط خاصة
حيث يرى أن من الضوابط الخاصة التي لا بد أن تكون متوفرة بالدراسات الاستطلاعية: التفاؤل.
أما الدراسات المعيارية فلابد من توفر العدل والإحسان وعقلانية التعامل مع التحولات المستقبلية.
ودعا المؤلف إلى ضرورة إنشاء مراكز للدرسات المستقبلية مبنية على قواعد شرعية على المستوى الرسمي والشعبي، تقوم بإعداد دراسات مستقبلية، ويجري تطبيق القواعد الشرعية عليها؛ لأن العلوم تترشد من خلال الممارسة العملية أكثر من الدراسات النظرية، ثم تولى هذه الدراسات النظرية الاهتمام المطلوب لتحقيق الغايات المنشودة منها.
وأوصى في نهاية الكتاب إلى ضرورة العناية بإعداد دراسات مستقبلية دعوية وفقهية، يطلع عليها القائمون بهذه المهام ليستفيدوا منها، ويبنوا عليها نشاطهم وتوجهاتهم.
مع المؤلف
أستاذ متخصص في الفقه وأصوله، يعمل قاضياً في المحكمة الكبرى في الرياض، ومدرساً متعاوناً في جامعة أم القرى. شارك في عدد من الندوات العلمية داخل المملكة وخارجها، منها ندوة التحكيم بالقاهرة وأخلاقيات الطبيب في الرياض. صدر له عدد من الكتب والأبحاث يزيد المنشور منها على عشرين، منها العمليات الاستشهادية صورها وأحكامها، مقاطعة بضائع الكفار، جداول الفرائض، المسؤولية عن الحيوان، الولاية، والفقه الارتيادي.
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: من معالم المنهجية الإسلامية للدراسات المستقبلية.
اسم المؤلف: د. هاني بن عبد الله الجبير.
بلد النشر: الرياض
الناشر: مجلة البيان
سنة النشر: 1429هـ.
عدد الصفحات: 108 صفحات