حين تهدئ من عجلتك لعبور الحياة بأسرع ما يمكنك، وتتوقف عن السباق مع الوقت لتهدر ما تحصّله منه في النهاية، وتركز على التنافس مع ذاتك لتكون أحسن ما يمكنك أن تكون، وتجتهد أن تمر بالحياة مرور إحسان وإتقان، ولا تتركها هي تمر بك مرور الكرام.. فقط عندما تفعل ذلك، سيمكنك فهم هذا المفتاح.
أن يكون لك بعد كل موقف وفي كل حين (أو دورياً على الأقل) وقفة مع نفسك، تتفكر في دواخلك وبواعثك، وتحلل فوضى المشاعر الجياشة داخلك والفوران المعتمل في صدرك، فتجتهد أن تسمّي وتوصّف هذه المشاعر، ثم تشرع في البحث في الجذور والمنشأ: لماذا هيّجك ذاك الموقف أو أسعدتك تلك الحادثة؟ ما منبع ضيقك أو وحشتك؟ وكيف تخفف حدة التوتر أو عمق الألم؟ هل حقاَ تحتاج للفضفضة أم تصبر حتى تهدأ وتفهم؟ وتقيّم أفعالك وردود أفعالك بنفسك لنفسك، واضعاَ دينك ومبادئك معيارك الرئيس لموازنة تقييمك في كل ذلك، بغض النظر عن أي اعتبار خارجي.
هذه الوقفات هي عرض عملي لمعنى مفهومي "التدبر" و"التفكر". فالتدبر هو النظر في عواقب الأمر وتوابعه، والتفكر هو التأمل في ذلك لاستخلاص دروس وعبر وعمق فقه وفهم. وفي القرآن الكريم كان الضالون هم أولئك الذين لا يستخدمون عقولهم، فلا يتدبرون ولا يتفكرون، فالعقل حين يوظّف بالصورة السوية لا بد أن يدل على الله ويوصل إليه، وما ضل أحد عن عقل، ولكن عن جهل حسبه عقلا! قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179]. مداركك لا تتسع وبصيرتك لا تتقد إلا حين تجتهد أن تكون ممن {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وطريق ذلك يكون بالتفكر والتأمل، والربط بين ما تقرأ وتسمع وترى وتشعر، وعدم الاستهانة بقدرهما أو الانشغال عنهما في دوامة المعيشة.
التدبر هو النظر في عواقب الأمر وتوابعه، والتفكر هو التأمل في ذلك لاستخلاص دروس وعبر وعمق فقه وفهم
ولتؤتي تأملاتك ووقفاتك ثمارها يفضّل أن تدونها كتابة أو تسجلها صوتاً، وتراجعها بين الحين والآخر، فيكون تدبرك في حالة تجدد وبناء منهجي في آن معاً، وستلمس بتوفيق الله تعالى وفتحه أثر ذلك في فقه رؤيتك للحياة وحسن تعاملك مع مواقفها وسداد تقييمك لمتاعها، كل بقدره بغير إفراط ولا تفريط. وننبه على أهمية عدم تعجل نشر ما يبصّرك الله به والتلهف لمشاركته على الملأ، حتى لا ينشغل قلبك بمتابعات الناس لما هو في الأصل متعلق بخاصة نفسك ، فيفقد الأمر جوهره من حيث كونه وسيلة للتواصل الروحي والثراء الداخلي، وينقلب غاية لاجتلاب المديح أو الانتباه من طريق خفي.
- التكاملية
أي مراعاة سياق حياتك المتكامل، بأن ترتب أولوياتك في رِكاب الغاية الكبرى كما سلف. كتب التنمية البشرية مجملاً تنبهك دائماً إلى ترتيب أهدافك لأولويات، لكن الحق أن أولوياتك نفسها بحاجة لترتيب أخص وأهم، وإلا ستشعر بالانفصام بين الوجوه العديدة التي تظهر بها، والأقنعة التي ترتديها لكل حال . فهل تبحث عن خلق لموقف، أم تسعى للتطبع بالخلق دوماً؟
إنه لمن قلة فقه الأولويات أن يغرِق المرء قائمة أهدافه بتغيير العالم والتأثير في الناس وتوحيد الجهود.. إلخ، وهو غير قادر على تغيير يومه هو وتنظيم أوقاته
فما تنفعك القراءة عن الوقت وتنظيمه ولا رؤية لديك لأهداف نافعة تريد تحقيقها؟ وما تنفعك اللباقة مع الناس وأنت فظ غليظ مع أهلك ووالديك وهم أوْلى الناس بالحسنى؟ وإنه لمن قلة فقه الأولويات أن يغرِق المرء قائمة أهدافه بتغيير العالم والتأثير في الناس وتوحيد الجهود.. إلخ، وهو غير قادر على تغيير يومه هو وتنظيم أوقاته – يكفي الاستيقاظ مبكرا وتقليل ساعات النوم والتلفاز! حذار إذن من تغيير يكون مجرد تلميع براق لمعدن في أصله صدئ، بل ابدأ بالأوْلى فالأولى، فليس كل ما يلمع ذهباً، لكن كل ذهب لا بد أن يلمع !