إلى من يخشى الانتكاسة بعد رمضان

الرئيسية » خواطر تربوية » إلى من يخشى الانتكاسة بعد رمضان
muslim- praying

تمر الأيام بنا سراعاً وأسرع من ذلك مرورها في شهر رمضان الخير والبركة، فما أن يهل هلاله حتى توشك شمس آخر أيامه على الغروب، وما بين ظهور هلاله وغروب شمس آخر يوم فيه يمر البشر بفترات متنوعة ما بين النشاط والكسل في العبادة وما بين الإقبال والإدبار على الطاعة.

ففي أول الشهر تتلألأ أنوار المآذن وتحث الخطى نحو المساجد ويسارع الناس إلى الجماعات، ففي الثلث الأول يتزاحم الناس في الصفوف، و تكون أصوات الناس كما النحل بين قارئ وذاكر وداعٍ ومصل، فإذا ما بلغ الشهر الثلث الثاني منه تجد بعض الهمم فترت والصفوف يتخللها الفجوات وعلامات الترقب لانتهاء الشهر بادية على كثير من الناس، بل إنّ البعض ينتكس حاله قبل نهاية الشهر فيتراجع عن كثير من الطاعات والبعض ينازع ويصارع الثبات حتى يخلع من رقبته مع صوت المؤذن للمغرب آخر يوم كل ما كان ألزم نفسه به طوال الشهر.

يمر العيد وتعود المساجد لتشكوا إلى الله هجران الناس لها وصلاة الفجر يعتصرها الألم على حال النيام منا، فما عدنا على التزامنا بها حال رمضان، فينتكس الكثير منا بهمته وإرادته ومسعاه وبل ومبتغاه، وكأن الحرام في رمضان حلال في غيره وكأن الطاعات في رمضان لا علاقة لها بغير رمضان، فتجد الواحد منا أعجز من أن يؤدي الفرض على وقته، أو أوهن من أن يضبط فورة غضبه، أو أضعف من أن يصون حواسه وجوارحه عن المحرمات، ويظل السؤال مقيماً في عقولنا: أو ليس رب رمضان جل شأنه هو نفسه تقدست أسماؤه رب الأشهر الأخرى؟!

إنّ هذه الانتكاسة إنما تعود لسببين:

الأول: الغفلة عن ثمرة التقوى المبتغاة من عبادة الصوم، والتي من المفروض أننا طيلة أيام الشهر كان تركيزنا على أن تكون المولود الذي يشهد النور في حياتنا والأثر الذي يترتب على عبادة الصوم لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[سورة البقرة: آية183]، فمن أسوأ ما يمكن أن يقدم المرء عليه بعد رمضان بأن يقطع الأسباب التي تمد ثمرة التقوى بكل ما من شأنه أن يربطها بأسباب الحياة، فالأحرى بنا أن نتعهد هذه الثمرة ونحافظ على كل ما من شأنه أن يمدها بأسباب النمو والبقاء، وأن نبذل وسعنا على ألا نكون ممن قال فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً. قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (رواه ابن ماجه).

من أسوأ ما يمكن أن يقدم المرء عليه بعد رمضان بأن يقطع الأسباب التي تمد ثمرة التقوى بكل ما من شأنه أن يربطها بأسباب الحياة

وقد نُسب لبعض العلماء تفسير معنى إذا خلوا بمحارم الله أي إذا سنحت لهم الفرصة انتهكوا المحارم ، فــ "خلَوا" ليس معناها "سرّاً "، وإنما من باب" خلا لكِ الجو.

الثاني: أننا نتعامل مع رمضان على أنه مرحلة من المراحل العابرة لا محطة ترتبط بما يتبعها وما يسبقها من محطات في حياتنا، ونظرنا إليه على أنه ضيف عابر سبيل لا رفيق مقيم وشتان بين الضيف العابر والرفيق المقيم، ففي الأول نوطن أنفسنا أن ما نقبل عليه وما نقوم به من أعمال إنما لفترة محدودة وزمان معين، فيرتبط ذلك في عقولنا الباطنة أن ما نقوم به له نهاية وبداية، ومن يتعامل بهذا الشكل وعلى هذا الأساس تجد فرقاً في أدائه للطاعات وإن داوم عليها، أما من يعتبر رمضان رفيقاً مقيماً فذلك يشهد الله في كل أحواله وأيامه وأزمانه لأن عقله وقلبه وفكره مرتبط بأنّ الملك الموجد الخالق الذي نتوجه له بعباداتنا وقصدنا ومسعانا هو جل شأنه لم يتغير ولم يغب في سائر الأزمان.

وفي نهاية المطاف ثمة أمران في غاية الأهمية أما أولهما: ألا تتوقع أن تخرج من رمضان وقد انتزعت عنك صفة البشرية فلم ولن تصبح ملاكا معصوما كلا، أن تضع هذه القضية المهمة نصب عينيك يعينك على تفادي الانتكاسة التي يعاني منها الكثير منا فأنت كنت في رمضان وما زلت بشر يخطئ ويصيب، فلا يعني التزامك في رمضان أنك أصبحت معصوماً مبرأً من الذنوب، بل الذي حدث أنّ الصيام ضبط لك غرائزك الإنسانية وعوّدك كيف تسوس نفسك برغباتها وأهوائها، وعلمك كيف تستلم زمام هواك فيكون تبعاً لأمر ربك فتمتنع عن المباحات لا من قبيل الترفيه عن النفس أو رياضتها وإنما تنفيذاً لأمر الله، فإذا كان الامتناع عن المباح لله في هذا الشهر الفضيل عبادة فترك الحرام في باقي أيام السنة أوجب وآكد، وكلا الأمرين يحتاجان لمجاهدة منك وتسديد وتوفيق من الله.

إذا كان الامتناع عن المباح لله في هذا الشهر الفضيل عبادة فترك الحرام في باقي أيام السنة أوجب وآكد

فجهادك لنفسك وأهوائك والشبهات والشهوات التي يتناوب على إلقائها في دروبك شياطين الإنس والجن كل هذا مستمر والنبي يقول: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (رواه ابن ماجه)، فجهادك مستمر باستمرار أنفاسك، فقد تفتر لكن الخطأ يرافقه توبة والفتور استعانة.

وثانيهما: اعرض نفسك على ربك وتعهد قلبك وخذ البيعة على نفسك لربك أن تكون المسلم في كل مكان وزمان فلا تكون مؤمناً ملتزماً في زمان دون زمان أو مكان دون الآخر، طلق الكسل والفتور وتابع السير إلى الله ولو كنت أعرجا ورحم الله الشافعي حيث نُسب إليه القول: (سيروا إلى الله عرجا ومكاسير، فإن انتظار الصحة بطالة).

واحرص على أن تختار من زروعك في دنياك لآخرتك ما كان منها دائم الخضرة، وإياك أن تتعامل مع زروع موسمية أو شهرية، أو ممن تزرع في زمان دون زمان ومكان دون مكان فستقضي أيام العام ببضاعة مزجاة فتأتي يوم القيامة بزرع داهمته الآفات من كل صوب فجاء مصفرا لا ثمر ولا ظل ولا خضرة، وليكن مما تعلمته من مدرسة رمضان أن تكون حيث أمر الله أسبق الحاضرين وأسرع المنتهين الفارين حيث نهى.

وختاما حتى تظل باراً في رمضان لا تغيب عنك معانيه وإن انقضى زمانه ضع نصب عينيك أنّ مثل رمضان كمثل الأم الحنون يأوي إليها أبناءها وتجمعهم تحت جناحيها، حتى إذا قضت تفرق الأبناء ونقضوا عهد الصلة والتواصل بينهم، هكذا البعض منا ينقض عهده ويتفرق شمله وتتشتت نفسه هذا من كان يعبد رمضان تماماً كمن يتعلق بالشخص الأم لحمها ودمها وجسمها أما من يبر أمه انطلاقا من معنى إيماني فسيظل يبرها بصور شتى حتى بعد أن أصبحت رميماً، فهلّا تعاهدنا بعد انقضاء رمضان على التمسك بأسباب السماء فلا نعقه بترك تواصلنا بعبادات تكون لنا الزاد في رحلة الحياة فنبقي على عهدنا مع رمضان لأن رب رمضان باق.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …