بين الفضول المثمر والفضول المُضِرّ

الرئيسية » بصائر تربوية » بين الفضول المثمر والفضول المُضِرّ
Curiosity فضول الفضول العلمي الفضول المؤذي الفضول مشكلة مشكلة الفضول 1

يحكى أن عصفوراً رأى طفلاً يدفن شيئاً ما في الأرض قرب شجرة، فاستمر بمراقبته، ولما انتهى من مهمته غادر، بينما العصفورَ قاده فضوله ليكتشف ما خبأه الطفل، فنبش الأرض وإذ بمخلبه يعلق في مصيدة نصبها الطفل.

يصدق في هذا العصفور ما جاء به المثل الإنجليزي: قتل القطة فضولها، أو قول القائل الذي تربينا عليه: من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه، وقد ربى فينا ذلك قيمة مهمّة كانت تكبح كثيراً من فضولنا السلبي كأطفال.

ولكن إذا قلنا إن الفضول كان قاسما مشتركا بين جميع الاختراعات الخارقة والاكتشافات العلمية العظيمة والصناعات البشرية المهمّة بدون استثناء ، فهل يبقى الفضول محط انتقاد ونفور ورفض في كل حالاته؟

دوافع الفضول وأهدافه:

الفضول غريزة تدفع إليها وتقف وراءها رغبة بالاكتشاف والمعرفة والاطلاع، إلا أن هدف هذه الرغبة هو من يصنفها إلى فضول سلبي مضر، أو فضول إيجابي مثمر، وإذا نظر أحدنا بوعي إلى العالم من حوله يجد أن الكثير من الصناعات والنجاحات تبنى على ذلك الشيء الذي يدعى "فضول"
مثلا: الكُتّاب والقصاصون، ومثلهم كثير من المسوقين ومديري المبيعات ومنظّمي الحملات الإعلانية والقائمين على الإعلام، يستغلون فضول النفس البشرية وطبيعة الرغبة الإنسانية الدائمة لمعرفة المزيد في تحقيق أهدافهم الخاصة؛ لأن البشر في الحقيقة مجبولون على الانجذاب للغموض والرغبة في كشف المستور .

فمن ناحية يكون عقل الشخص الفضولي محتشداً بتساؤلات وكلمات من قبيل: "ماذا بعد؟ لماذا؟ من فعلها وكيف فعلها؟" فتحركه الرغبة بالاكتشاف – مهما كان هدفه – ومن ناحية أخرى تجد غالبية الذين يميلون إلى الكلام الكثير والنميمة يرددون عبارات مثل: "سأخبرك بشيء مع أنني أعلم أنه لا يهمك"

والفضول بجانبيه الإيجابي والسلبي هو سلوك إنساني مثل أي سلوك يمكن أن يزيد وينقص ويعتدل أو يتطرف فيه الإنسان حسب دوافعه وأسبابه وتعوّده؛ ويقف وراءه الشغف بمعرفة الأشياء التي تثير الفكر البشري وتختفي خلف حدوده، والشغف برؤية ما لا يظهر للعين أيا كانت الغاية.

الفضول بجانبيه الإيجابي والسلبي هو سلوك إنساني مثل أي سلوك يمكن أن يزيد وينقص ويعتدل أو يتطرف فيه الإنسان حسب دوافعه وأسبابه

بين الفضول الإيجابي والسلبي:

وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن السفر دوماً كان ضرورة حتميّة للتعلم وصقل الذهن؛ لأنه يتيح لطالب العلم فرصة لقاء معلمين عظماء ومرجعيات علمية مهمّة ، وربطَ ضرورة وجود هذا الشغف للعلم والبحث بتحقيق مقصد الآية القرآنية الكريمة في سورة القصص، يقول تعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

والفضول ليس شراً كله، فالفضول عموما هو الزيادة من الأشياء، والمعنى اللغوي لكلمة فضول يحمل الوجهين، ويطلق على حب الاستطلاع، ويطلق في المقابل على التدخل فيما لا يعني، ويفسر علماء النفس الجانب المَرَضيَّ منه بأنه ناتج عن اختلال نفسي شبيه بالاضطراب العقلي وأهم أسبابه هو التعوّد على الاطلاع غير المقنن وتضخم الرغبة بمعرفة المزيد مما لا يعنينا فينقلب إلى تطفّل ممقوت.

ولتقنين الأمر فإن علينا أن نسلم بأن الله تعالى لن يزرع شيئاً في النفس الإنسانية ليعاقبنا به، بل ليحفزنا لاكتشاف ميزته وخوضها عن آخرها ويختبر قدرتنا على التقنين وتحقيق التوازن، وإلا لما كان التأمل والتفكّر من أعظم العبادات، ولما عاقب سيدنا آدم – عليه السلام – بفضوله تجاه ما مُنع عنه.

ولكي يدرك الإنسان ثمرات الفضول الإيجابي فإن من المنطقيّ ملاحقة الشغف تجاه العلم، وأسرار الأشياء والطبيعة وتكوين المخلوقات وتفاصيل هذا الكون كله، وغيرها الكثير، و يقابله بترك شؤون الناس للناس، وتجنب التساؤل تجاه حيواتهم والتدخل في طريقة معيشتهم وأسباب اختياراتهم والبحث في عيوبهم ونقائصهم.

لكي يدرك الإنسان ثمرات الفضول الإيجابي فإن من المنطقيّ ملاحقة الشغف تجاه العلم، وأسرار الأشياء والطبيعة وتكوين المخلوقات وتفاصيل هذا الكون كله

إيجابيات و فوائد الفضول:

1. أغلب الفضوليين يحققون سعادة بإشباع رغبة المعرفة تلك، وبقليل من الترشيد يمكن أن يصبح فضولنا مصدراً لسعادتنا.

2. يقلل من الأخطاء في اتخاذ القرارات ويساعد في توليد البدائل، وذلك بالاستعانة بالمخزون المعرفي والخلفية التي يكونها عن الأشياء والمجالات والأشخاص بدافع شغفه وفضوله.

3. يدفع الموظفين والطلبة والأبناء إلى البحث والتعلم والاطلاع فإن الكثير من التغييرات الإيجابية يمكنها أن تحدث بسببه سواء في المهمات الإبداعية أو العادية.

4. يخفف من النزاعات والصراعات وحدّة المشاكل، إذ يمكن بالشغف للمعرفة أن يضع الشخص نفسه في مكان من ينازعه فربما تتغير وجهة نظره ويتعاطف مع الخصم فتخف حدة الصراع.

5. التكيف مع الأوضاع المتغيرة وتحمّل مفاجآت البيئة والبشر المحيطين بنا، يحتاج إلى الكثير من المهارات التي تتغذى على فضول الإنسان.

6. يفتح الفضول أفقاً جديداً للتعامل مع البشر وأفراد الأسرة وأعضاء الفريق وزملاء العمل والأصدقاء والمصلين المجاورين في المسجد وكل من نلتقي بهم ونتشارك معهم شيئاً ولو كان وسيلة مواصلات، فيؤدي للانسجام والتناغم وانسيابية التعاطي مع كل ما يطرح؛ لأن الخلفية المعرفية عن كل هؤلاء والتوقعات التي نكوّنها عنهم تسهل التعامل وتحفظ أدبه وتجنّب الحساسيات.

7. يساعد على تحسين السلوك الشخصي والصحة النفسية والسلامة العقلية بإبقاء الإنسان كل جوارحه في وضعية الاستعداد للجديد والتأهب للتعلم والبحث والحركة فيتأثر ويتحسن سلوكه وتفكيره.

ولكن،

ستجد دائماً من يحاول إحباط محاولاتك للتحسن، ويكبح فضولك لأغراض مختلفة وبحجج غريبة ولأن الفضول أيضاً تعوقه بعض الأشياء، وعليك تجاوزها أولاً خصوصاً لو كان مصدرها البشر، ثم إيجاد طرق للتخلص من المعيقات الأخرى أو إيجاد بدائل نسبية.

الفضول أيضاً له معيقات عليك تجاوزها أولاً خصوصاً لو كان مصدرها البشر، ثم إيجاد طرق للتخلص من المعيقات الأخرى أو إيجاد بدائل نسبية

كيف تنمي فضولك الإيجابي؟

إذا كنت لا تستطيع التوقف عن تعلم شيء لديك شغف تجاهه أو يعجزك كبح حبك للاستطلاع فأنت فضولي، لكن إذا عانيت من النقيض ولم تستطع إدراك ما يجدر بك تعلمه، فإليك بعض الطرق المجرّبة لتنمية فضولك الإيجابي والتمتع بمزاياه الكثيرة حسب بحث أجرته العالِمة السلوكية فرانشيسكا جينو وأستاذ إدارة الأعمال في كلية هارفارد:

1. استثر فضولك بنفسك
حين يسألك أحدهم عن شيء لا تعرفه ثقف نفسك وابحث عنه وتعلم، حين تسمع اسم شخصية تاريخية اقرأ عنها، إذا لفت انتباهك شيءٌ في التلفاز أو الشارع وسّع دائرة معلوماتك عنه واسأل، لا بد أن تتعثر بما يشدك أكثر فتتعود على الاطلاع والمعرفة.

2. اقتد بأحد الفضوليين
النموذج دائماً ملهم ومشجّع، إذا أردت تنمية فضولك، فعليك باختيار شخص فضولي ذي شخصية وحضور في مجالك حقق إنجازات ونال إعجابك، وتابع طريقته في البحث والاطلاع والاكتشاف وطرح الأسئلة وجمع البيانات إلى أن تتمكن من بناء شخصيتك وتبتكر طريقتك الخاصة.

3. ركز على النتائج أكثر
التركيز على أهدافك والعمل عليها وإبقاؤها في مرمى البصر دوماً وتخيّل نفسك بطلا حققها فعلياً سوف يشعل فضولك ويحرك رغبتك في التعلم لتخطي مرحلة فمرحلة.

4. شجّع من حولك للتعلم
سوف يساعدك وجود أشخاص مثلك من حولك ويحفزون استمرار رغبتك بالتعلم والاكتشاف، كما يفيد تلاقح الأفكار بينكم في إمداد الجميع بالمزيد من الشغف للاستزادة من التعلم.

5. تساءل واسأل دوماً: ماذا لو ...؟ لماذا ...؟ كيف يمكننا ...؟
حلقات العصف الذهني وطرح التساؤلات عن الأشياء يشعل الفضول بدون انطفاء؛ لأن كل معلومة ستفتح باب شغف جديد، وللعلم فإن طرح السؤال المناسب في وقته ومكانه مهارة يمكن أن يتعلمها الإنسان وفي الطريق إلى إتقانها الكثير من الموضوعات المثيرة لشغف التعلم.

وفي المجمل،
فإن ظاهرة الفضول التي شاع دوماً التحذير من جوانبها السلبية هي بوابة واسعة مجهولة تؤدّي إلى تحسين بيئة العمل ونوعه، وتحسين الحياة ككل، المهم أن نرشّد جموحه ونوجه دفته كما يجب.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • https://hbr.org/2018/09/curiosity
  • كتاب: (الفضول - تأليف/ البرتو مانغويل - الطبعة العربية - عن دار الساقي، بيروت: 2017م)
  • https://www.syr-res.com/article/15506.html
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …