قرأت بالأمس خبراً جعلني أعقد مقارنة بين الجاهلية الأولى بما كان فيها من رجس وموبقات وبين الجاهلية الحديثة التي نحياها.
الخبر يقول...
عائشة الشاطر للقاضي: إن كانت تهمتي أني ابنة خيرت الشاطر، فهي تهمه أتشرف بها، ومستعدة أن أحبس بها باقي عمري وليس 8 أشهر، ولكن أي قانون يقول أن أحبس وأنا امرأة في حبس انفرادي، بدون دورة مياه أقضي حاجتي في جردل وبدون زيارة وأحرم من أطفالي!!
هذا الخبر جعلني أرجع بالذاكرة للوراء لأسترجع كيف كان كفار قريش يعاملون نساء خصومهم بل وأعدائهم!
إن كفار قريش عندما أخذوا من كل قبيلة رجلاً.. وذهبوا ليقتلوا النبي ﷺ، ظلوا واقفين على باب بيته ليلاً منتظرين أن يخرج ثم يُجهزوا عليه كما اتفقوا فيما بينهم.
لقد كانوا قادرين على أن يقتحموا البيت ليحققوا مؤامرتهم ولكن عندما اقترح أحدهم فكرة اقتحام البيت رد عليه أبو جهل بكل عنف: (وتقول العرب أنا تسوَّرنا الحيطان وهتكنا ستر بنات محمدا!!؟)
إن كفار قريش كان عندهم الحد الأدنى من النخوة والرجولة، كانوا يعرفون أن البيت فيه نساء وبنات صغار، فلا يجوز أن يقتحموه، ولا يجوز أن يكشفوا سترهن، أو ينتهكوا خصوصياتهن، أو يروعوهن.
ويذكر أن أبو جهل حينما سأل السيدة أسماء بنت أبي بكر عن أبيها فلم تجبه لطمها على وجهها طيشاً منه وانفعالاً ولكنه ظل يتوسل إليها ويقول لها: (خبئيها عني، خبئيها عني) أي لا تخبري أحداً أني لطمتك على وجهك، أي لا تفضحيني ويقول الناس أني ضربت امرأة.
أقرأ عن أخلاق الجاهلية الأولى هذه وأسترجع ما يفعله زبانية الجاهلية الحديثة من ضرب للنساء كما حدث مع محامية محافظة الشرقية حين طلبت من أحد الضباط أن يُظهر لها إذن النيابة قبل القبض على عمها المتهم في قضية جنائية فما كان منه إلا أن ضربها بمؤخرة مسدسه في رأسها مسبباً لها كسر بالجمجمة وعاهة مستديمة بالوجه.
ومن مواقف الجاهلية الحديثة الإخفاء القسري للفتيات في أقبية موحشة وسط أناس لا خلق لهم ولا ضمير بل ولا عهد ولا ذمة رجالاً كانوا أو نساء.
ومن مواقف الجاهلية الحديثة التفتيش الذاتي للحرائر العفيفات أثناء زيارتهن لذويهن في المعتقلات بأسلوب أقل ما يوصف به أنه تحرش من سيدات غلاظ شداد لدرجة أن إحداهن أصرَّت ذات مرة أن تقوم إحدى الفتيات بنزع "الفوطة الصحية" التي تستخدمها لتتأكد أنها لا تهرب بها شيئاً.
ومن مواقف الجاهلية الحديثة اقتحام البيوت واقتحام غرف نوم الأطفال فمنهم من يُصاب بالصَّرع، ومنهم من يُصاب بالتبول اللاإرادي، وغير ذلك من الأمراض النفسية والبدنية.
إن ما يحدث من تجاوزات يندى لها الجبين في حق النساء والفتيات علمنا منها مواقف قليلة بل نادرة يشيب لها الولدان ويتم السكوت عن مواقف أخرى كثيرة إما بدافع الخوف والتهديد، أو بدافع الحياء، أو بدافع الخوف من الفضيحة، وسينبأنا التاريخ عن الكثير والكثير منها بعد ذلك كما نبأنا عن أخبار ومواقف جاهلية الخمسينيات والستينيات.
وختاماً: لا بد أن نقر أن العظمة في مواقف الجاهلية الأولى كانت في المجتمع الذي تبنى قيماً ومباديء تطبق على الجميع دون استثناء ويرفض الممارسات الخاطئة ويلفظ فاعليها ويعيِّرَهم بها مهما كانت مكانتهم ومهما بلغ نفوذهم لدرجة أن أبو جهل نفسه كان يخشى المجتمع ويعمل له ألف حساب.
إن الإسلام عندما حرَّم الظلم جعل الظالم وأعوانه المؤيدين له أو الساكتين عنه في الإثم سواء، لذلك يحذرنا الله تعالى فيقول: "وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ {113}" (سورة هود).
يُروى عن الامام الإمام أحمد بن حنبل، حينما كان مسجوناً في محنة "خلق القرآن" سأله السجان عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة ، فقال له: الأحاديث صحيحة، فقال له: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك، من يطهو لك طعامك، من يساعدك في كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم".
جاء خياطٌ إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان (وكان السلطان ظالماً)، هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط..!!
إن هناك حالات قد يبرر فيها العوام إعانة الظالم والركون إليه بحجة أن ذلك لا يُقدم شيئا ولا يُؤخر ، هنا نذكرهم بموقف خوف أبو جهل من رد فعل المجتمع الذي هو في غالبيته من العوام. إن العوام من الناس هم الدرع الواقي للقيم وللمبادئ وحين يتخلى العوام عن دورهم فلابد وأن نقول لهم رُحماكم بالجاهلية الأولى التي تخطيتم دركها وانحطاطها.
اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم، افضح اللهم أمرهم، واكشف اللهم سترهم، وابتليهم اللهم في أعراضهم واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.