علم النفس في القرآن الكريم وقضية شمول النَّصِّ القرآني

الرئيسية » بصائر الفكر » علم النفس في القرآن الكريم وقضية شمول النَّصِّ القرآني
quran12

من بين أهم الأمور التي يجد الكثير من علماء اللإسلام ومفكِّريه أنه من الضروري وضعها على قائمة أولويات كتابات المفكِّرين المسلمين، قضية المفاهيم القرآنية.

ويعود ذلك لعدد من الأسباب شديدة "الاستراتيجية" لو صحَّ التعبير، ومنها وجود عدد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول قضية شمولية النَّص القرآني.

وبالتالي؛ فإن إثبات هذه القضية، هو من صميم الدفاع عن العقيدة، في ظل مركزية القرآن الكريم في العقيدة الإسلامية، ممَّا يعني معه أن الفشل في إثبات أي أمرٍ يتعلق بكتاب الله تعالى، يعني هدمًا للعقيدة عند الناس، ولجهود الدعوة.

وتزداد أهمية هذه المسألة أن هناك مفهوم خاطئ لمسألة الشمول هذه، ممَّا يمكِّن خصوم الدين من قنصه منها؛ حيث إن هذا المفهوم عن العثور على "كل شيء" في القرآن الكريم، لا يعني تلك الرؤية الساذجة من أن القرآن الكريم فيه كل أسرار الكون وحسابات الرياضيات والفيزياء، والآداب والفلسفة.

فهذه الرؤية القاصرة يدحضها النَّصُّ القرآني والحديث النبوي الشريف ذاته.

فالقرآن الكريم نفسه يقول بأن فهم النَّصِّ القرآني إنما يكون بالتدبُّر  ، وهو ما يعني أن النصوص القرآنية لن تحوي كل "المعلومات" التي في الدنيا صراحةً، وإنما سوف تكون في صياغة ربانية مُحْكَمة، شديدة العموم، ووفق طريقة النماذج، والتي يشمل معها القرآن الكريم مختلف القضايا الكُلِّيَّة التي تهم الإنسانية، وليست قصة معلومات مباشِرة في الحساب وجغرافيا وفيزياء.

فعبارة "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" التي وردت مرتَيْن في كتاب اللهِ تعالى، في سورتَيْ "النساء" و"محمد"، شديدة المركزية والأهمية في تناول هذه النقطة. قضية شمولية النص القرآني، بجانب نقطة العمومية.

وفي الحديث الشريف ما يقول بذلك، فعندما كان الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، يلقِّن معاذ بن جبل (رضي اللهُ عنه) قبل إرساله لدعوة أهل اليمن؛ قال له النبي "عليه الصلاة والسلام": "كيف تقضي إذا عُرِض لك قضاء؟. قال: أقضى بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟. قال: فبِسُنَّة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فإن لم تجد في سُنَّة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا في كتاب الله؟. قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" صدره، وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله" [أخرجه الإمام أحمد في المُسْنَد].

وهذا يقول ببساطة إن قضية شمول القرآن الكريم ليست كما يفهم الناس، ومما انساق إليه – للأسف – علماء مسلمين بحماسة زائدة، ساعدت خصوم الدين وأعداءه الذين يعرفون مركزية القرآن الكريم وأهميته في الإسلام، على الدخول من هذه الناحية  .

ونختار في هذا الموضع من الحديث نموذجًا مفيدًا للتأكيد على هذه المنهجية الواجبة الاتباع لفهم موضوع الشمولية الموضوعية، وبالتالي الصلاحية والمرجعية الزمانية والمكانية للقرآن الكريم، وهو علم النفس.

فموضوع علم النفس في القرآن الكريم أوسع بكثير من الرؤية الشائعة في هذا الصدد، من أن القرآن الكريم فيه شفاء لما في الصدور، وبالتالي، أنه أداة علاج نفسي فعلاً للإنسان، ممَّا عززه الحديث النبوي الشريف.

موضوع علم النفس في القرآن الكريم أوسع بكثير من الرؤية الشائعة في هذا الصدد، من أن القرآن الكريم فيه شفاء لما في الصدور، وبالتالي، أنه أداة علاج نفسي فعلاً للإنسان

فهذا فقط جزء من موضوع علم النفس وقضاياه في القرآن الكريم، والذي تناول الكثير من الأمور التي تساعد على فهمٍ أفضل للنفس البشرية.

ففي الآيات التي تتناول موقف الكافرين الذين قابلوا رُسُلَ اللهِ تعالى ودعواتهم للتوحيد، بالعتوِّ والنفور، والجاحدين بآيات الله سبحانه؛ نجد الكثير من معالم وسيماء النفس البشرية الأمْيَل للعناد، ونفهم الكِبْر الذي يملأ نفوس البعض، وكيف يقود هذا وذاك بصاحبه إلى التهلكة. تمامًا كما نقرأ في كتب علم النفس المعاصِرة، وحتى لدى الفلاسفة منذ قديمٍ.

كذلك نجد دور الإيمان في تهذيب النفس والسلوك البشريين، من خلال الآيات التي تتناول سلوك أنبياء اللهِ عز وجل، وكيفية تعاملهم مع أذى قومهم، مثل الأدب والإجمال في الطلب، والصبر على المكاره.

وهذا بدوره نجد أنه من أهم الأمور التي استندت حتى إليها فلسفات وديانات وضعية ظهرت عبر التاريخ؛ حيث إن المحتوى النفسي هو أهم مكوناتها لإصلاح الذات البشرية، وبالتالي إصلاح المجتمعات والإنسانية بالكامل.

ومن بين قصص القرآن الكريم التي فيها الكثير من النواحي المتعلقة بعلم النفس، وكيفية فهم نفسية الإنسان، وبواعثه التي تحرِّك سلوكه، قصة ابنَيْ آدم "عليه السلام" – لم يرد في القرآن الكريم أو في أصحاح السُّنَّة اسما قابيل وهابيل المنتشرَيْن لهما – وقصة نبي الله يُوسُف "عليه السلام".

ففي قصة ابني آدم "عليه السلام"؛ نقف أمام صورة شاملة لكيف تقود الغيرة الإنسان إلى قتل أخيه؛ حيث قادت غيرة أحدهما من الآخر في مسألة القبول الإلهي لقربان أخيه من دون قبول اللهِ عز وجل لقربانه هو، بسبب ما كان في نفس القاتل من أدران وسوءات، وما كان عليه من عصيان، وأنه لم يكن من المتقين.

والقصة لا تقف عند هذه الجزئية، فهي كذلك تصف حالة الندم الكبير التي عرفها القاتل بعد أن ارتكب جريمته الشنعاء، وكيف أصبح من الخاسرين.

وفي قصة يُوسُف "عليه السلام"؛ نجد أن القرآن الكريم قد أجاد وصف مشاعر الغيرة لدى إخوته منه، وكيف قادتهم هذه المشاعر إلى ارتكاب جريمة إلقائه في الجُب.

كذلك في ذات القصة، نجد صورة قرآنية شديدة التعمُّق في نفس المرأة، وكيف قرأ القرآن الكريم ما لدى النساء من مشاعر قد تتناقض مع بعضها البعض، مثل الحب المبالغ فيه والذي يقود إلى كراهية عميقة لو لم تجد المرأة له مقابلاً من الرجل الذي تحب.

فها هي امرأة العزيز تقود يُوسُف "عليه السلام" إلى العقاب، بالادعاء عليه، مما أدى إلى سجنه بضع سنين، لأنه رفض الاستجابة لها ولرغباتها المشؤومة.

كذلك نرى في الآية جوانب أخرى من نفسية المرأة تجاه المرأة، في ذلك الموقف الذي قدمه القرآن الكريم بصورة قصصية بديعة، بين امرأة العزيز ورفيقاتها، وكيف كانت مشاعر الغيرة والحسد بينهنَّ.

نقف في القرآن الكريم على أوصاف دقيقة للإنسان والنفس الإنسانية في الكثير من الآيات، مثل وصفه بالعَجَل وحب الجَدَل، والهلع والضعف، وكيف أن هذه النفس الهلوعة الضعيفة قد تقود الإنسان إلى اليأس، وغير ذلك

وحتى بعيدًا عن القصص القرآني؛ نقف على أوصاف دقيقة للإنسان والنفس الإنسانية في الكثير من الآيات، مثل وصفه بالعَجَل وحب الجَدَل، والهلع والضعف، وكيف أن هذه النفس الهلوعة الضعيفة قد تقود الإنسان إلى اليأس، وغير ذلك مما نجده في أوراق وكتب علماء النفس المعاصرين؛ حيث تكلموا بكثير من الاستفاضة عن هذه الصور القرآنية التي اكتفى الله عز وجل بإشارات عامة لكنها وافية إليها.

وهذا بطبيعة الحال، كلامٌ عام، يحاول فقط الإشارة بما يمكن أن يتحمَّله هذا الحيِّز من الحديث، إلى بعض الأمور التي هي بحاجة إلى دراسات أوسع وأكبر.. يقول تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [سُورَة "الكهف" – الآية 109].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …