في طريق التغيير والتعامل مع نفوس البشر نجد تقلبات بين الإقدام والإحجام، بين الهمة العالية والفتور، بين الأمل واليأس، بين الانشغال في سفاسف الأمور والانشغال بمعاليها.
والدعاة إلى الله، وقادة التغيير، والمسؤولون عن إعادة الريادة للحضارة الإسلامية العظيمة هم بشر، يعتريهم ما يعتري البشر من مراحل فتور وابتعاد، وتعوقهم المنعطفات على الطريق وما أكثرها.
وبما أن الدعاة والمصلحين هم حفظة الأرض كما يقول ربنا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، فقد وجب عليهم ما لم يجب على غيرهم من بقية الخلق في التماس وسائل الحماية والمقاومة لتلك الأمراض التي تصيب الجميع، وذلك بسابق علمهم من كتاب الله وسنة نبيه التي حذرت من تلك المنعطفات والمنحنيات والقلاقل التي قد تغري الداعية بالسقوط وترك الطريق كلية.
وفي هذه السطور سأستعرض واحداً من أخطر تلك المعوقات وهو الفتور والزهد الدعوي.
وفتور الداعية وزهده في الحركة والسعي بين الناس وعدم تحمله لمشاق الطريق هو المعوق الأكبر في طريق الداعية، والإشكالية الكبرى أنه الخطوة الأولى نحو السقوط وترك الطريق.
فتور الداعية وزهده في الحركة والسعي بين الناس وعدم تحمله لمشاق الطريق هو المعوق الأكبر في طريق الداعية
يبدأ هذا المرض بغزو الدعاة إذا طال الطريق بدون ظهور نتائج جلية للعين ومكاسب سريعة، فتصير خطاه فيه ثقيلة، يركن إلى التماس الراحة، وإيجاد الأعذار، والهروب من ملاقاة إخوانه، والنقد الكثير بدون تقديم حلول عملية، كثرة الكلام بدون حركة، كثرة الجدال فيما لا طائل من ورائه، كثرة الشكوى من مشقة العمل الدعوي والجهر بكلمة الحق، قلة التعرض لكتاب الله وقراءة سنته والفتور في طلب العلم النافع ثم الانشغال بما هو أقل أهمية، تزيين الشيطان له عبادات أخرى أكثر فردية وبعدا عن الناس والاختلاط بهم.
فنجده يهتم بالمظهر دون الجوهر، وبالموضوعات التي تبعده عن الصدام مع المجتمع أو مع المسؤولين والأنظمة وحقوق المظلومين ومناصرة الضعيف، ثم يمتد الأمر لقلبه فيتقلب بدون أن يدري، ويتحول حبه لإخوانه لما يشبه الكراهية والغيرة والحسد، ويأخذ في مهاجمتهم، وتصيّد أخطائهم لنقدهم على الملأ بحجة الإصلاح، ثم يمتد الأمر من النقد الشخصي لنقد الطريق ذاته ومن ثم الخروج عليه.
من أسباب الفتور لدى الدعاة
والفتور لا يظهر عنوةً في قلب الداعية وسلوكه، وإنما هو كالداء الخبيث، يبدأ صغيرًا غير محسوس ثم يستفحل ليستبدل الشخص بشخص آخر تمامًا ، لا يحمل نفس الفهم، ولا يحمل قضية، ولا يحمل وعيًا، ولا يحرص على أخوة، ينزع إلى الهوى، ويركن إلى السكون، وقليلا ما يكتفي بالابتعاد، إنما قد يوقف حياته لمحاربة ما كان عليه وله يعيش.
ومن أهم الأسباب:
1 ـ اليأس من النصر القريب
نعم إن طريق الدعوة ليس مفروشا بالورود، بل هو طريق شاق ، لاقى فيه الأنبياء ما لاقوه من تعب وعنت وعداوة من ذويهم وتعذيب، ومنهم من دفع حياته في سبيل دعوته، كذلك الدعاة من بعدهم، والذين ساروا على دربهم، فقد يستبطئ الداعية النصر، وحين يتأخر وتزيد كلفته يصيبه الفتور وقد يتطرق الأمر للسقوط وترك الطريق.
والنصر له أشكال عدة، فقد يمثل الثبات على الطريق وقت المحن نصراً مؤزراً، ففتية الكهف انتصروا حين استطاعوا أن يفروا من قومهم خوفاً على دينهم، وأصحاب الأخدود انتصروا برغم موتهم بالحرق بثباتهم على دينهم وعدم امتثالهم للطاغية، وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام انتصر حين ألقي في النار بدون أن يخاف أو يفكر في التراجع.
فالنصر ليس بالضرورة أن يمثل التمكين، وإن كان التمكين سوف يحدث للمسلمين حتمًا حين تكتمل أسبابه ويأذن الله عز وجل به.
فالداعية حين يتعجل قطف الثمرة، أو يستبطئ النصر يقول الله فيه: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]، ويقول تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] فعدم معرفة طبيعة الطريق، وأسباب النصر وحتميته تعد سبباً كبيراً للنكوص والترهل الدعوي، واليأس من حصد النتائج يؤدي إلى الفتور والابتعاد.
عدم معرفة طبيعة الطريق، وأسباب النصر وحتميته تعد سبباً كبيراً للنكوص والترهل الدعوي، واليأس من حصد النتائج يؤدي إلى الفتور والابتعاد
2 ـ الخوف على الأبناء والتعلق بمتاع قليل
ومن المعوقات الكبيرة التعلق بمتاع الدنيا، أو الخوف على الأبناء من تبعات العمل لله خاصة في وقت تحارب فيه الدعوة من كل حدب وصوب.
والدنيا قد تنفتح على الداعية فيركن إلى المال والأبناء والضياع، ويخشى على ما يملك فيستحب صحبته، ويتمسك به، ويتجنب ما قد يحيل بينه وبين متاعه القليل، فيهرب من صحبة إخوانه، ويهرب من تبعات دعوته، وقد يبدل ويغير بعض ما كان يفعل أو يقول، أو يهدي من حركته، أو يقلل من احتكاكه بالناس.
وقد تغريه الفضائيات والشهرة فيغتر بعلمه، وتأبى عليه نفسه بعد العطاء أن يعرض نفسه لغضب الطغاة فيتراجع مع أول اختبار، وقد يهدد بأبنائه شأن كل الدعاة في كل عصر.
وهنا تكون الطامة الكبرى، تضعف نفسه، وتفتر همته، ويتنحى بهم بعيدا عن جادة الطريق، يتنصل من كل من يعرفه من إخوانه، ولو استطاع ان يغير اسمه لفعل، يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: كنا يوماً من الأيام نحن معشر الأنصار، قلنا بيننا وبين أنفسنا: "إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ويقول رب العزة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ} [التغابن: 14].
3 ـ البعد عن الإخوان والصحبة الصالحة
والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ، والدين الإسلامي دين متفرد في طقوسه وعباداته، فليس هو دين فرد يمكن أن يحيا وحده وينعزل بنفسه وينأى بذاته عن الناس مدعيًا أنه عابدٌ في صومعة، فكل عبادات الإسلام هي عبادات جماعية اجتماعية يلزم الفرد فيها أن يلزم الجماعة كي يؤديها، وإلا فكيف يكون صادقاً إن لم يختلط بالناس ويصدق بينهم، كيف يكون ناصحاً حاملاً مبلغاً لدين الله إن كان وحده، كيف يدعو في خمس صلوات غير النوافل، بقول الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بصيغة الجمع وهو وحده؟ هذا جانب.
وأما الجانب الآخر، فالمرء يحتاج صحبة تعينه على مقاومة الشيطان، مقاومة نفسه، مقاومة الفتن، تلك الصحبة إن أحسن اختيارها فهي حائط سد منيع بينه وبين الوقوع، وإن لم يكن للأخوة طائل سوى أن تعينك ضد الباطل وتوجهك للحق فكفى بها نعمة، وإن لم يكن للصداقة الطيبة حصاد سوى أن يقوموك قبل السقوط فكفاها نعمة.
يحتاج المرء صحبة تعينه على مقاومة الشيطان، تلك الصحبة -إن أحسن اختيارها- فهي حائط سد منيع بينه وبين الوقوع وعدم الثبات
إن للأخوة في الدين مقاماً عليا جعلها الله عز وجل تساوي في أجرها الحاكم العادل، ورجلاً قلبه معلق بالمساجد، وشاباً نشأ في طاعة الله، ورجلاً دعته امرأة ذات مال وجمال فقال إني أخاف الله، ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها.
جعل الله مقام الأخوة بجانب هؤلاء الست ليكون سابعهم، يظل في عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، ولم يكن ذلك إلا لأهمية الأخوة ودورها الفعال والمهم في التثبيت على الطريق الصحيح ومقاومة الفتن، وتلافي أسباب السقوط خاصة للدعاة الذين يضعون رقابهم تحت المقصلة، حاملين أرواحهم على أكفهم مقابل كلمة الحق.
فالداعية حين يقرر الابتعاد عن الصحبة الطيبة فقد هوى بنفسه بعيدا عن مدارك الأبرار، وهام بنفسه في ممر الفتن وكان أكثر عرضة للوقوع.
وهناك أسباب أخرى بالإضافة إلى الفتور لا يتسع المقام لذكرها يمكن أن تكون سببا في تساقط الدعاة، منها كثرة الذنوب والصغائر وعدم الاحتراز منها حتى تثقل على القلب فيغشاه الظلم وتصعب عليه رؤية الحق.
ومنها عدم مدارسة سير الأولين باستمرار لمعرفة طبيعة الطريق، وطبيعة الحياة وفتنها وابتلاءاتها وطول الطريق ومشقته وربنا عز وجل يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولعلي في طيات تشخيص أسباب داء التساقط قد أوضحت بعض السبل إلى كيفية تجنب الوقوع، وسوف أخصص لها مقالا آخر لأهميتها، كيف نحترز من الوقوع، وكيف ننهض بأنفسنا إذا اعترانا بعض الخمول؟
كيف نتلاحم فيما بيننا لنمنع سقوطا آخر؟
أسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق حتى يظهر الله دينه، أو نقضي دونه، إنه نعم المولى ونعم النصير