فقه الأولويات في ضوء سورة يوسف

الرئيسية » بصائر الفكر » فقه الأولويات في ضوء سورة يوسف
quran-fact

توطئة

لقد شرع الله عز وجل الدين ليضمن به سعادة الإنسان وصلاحه وهدايته ونجاته في الدنيا والآخرة، وأنه سبحانه قد شرع الشرائع لحكم ومقاصد كثيرة، قد ينجلي لنا بعضها وقد يخفى البعض لكي يظهره الله لأحد من عباده وقد لا يظهره سبحانه لحكمة عنده كذلك، وآيات المقاصد كثيرة علل الله بها بعض أحكامه فيقول في تعليل رسالة الإسلام بأنها هدى ورحمة وشفاء، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]

ويقول تعليلا للحكمة من تشريع الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر} [العنكبوت: 45]

وعلل الحكمة من تشريع الصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وهناك آيات كثيرة في هذا المضمار، وكذلك هناك أحاديث نبوية كثيرة أذكر منها على سبيل المثال في حديث الحكمة من الأمر بالصوم والزواج للشباب فيقول صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاءٌ» [متفق عليه]

وما علل به الحكمة من الاستئذان فقال: «إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر» [متفق عليه]

ولذلك فقد وجب على الداعية أن يكون على علم ببعض المقاصد، وكذلك أن يكون على علم وفقه بحال المدعو واحتياجه ومواطن ضعفه؛ لأن ذلك أوجب للتأثير فيه وأكثر فائدة من الدعوة إلى الله بجهل أو على غير بينة.

وقد بين القرآن الكريم في قصصه التي قصها على نبيه وأمته ووصفها بأحسن القصص، والتي لم تكن لمجرد التسلية، وإنما لتبيان منهج الرسل والأنبياء في الدعوة إلى الله وتبيان طبيعة البشر في التلقي؛ لتحقيق المقصد من تلك الدعوة المباركة.

يجب على الداعية أن يكون على علم ببعض المقاصد، وكذلك أن يكون على علم وفقه بحال المدعو واحتياجه ومواطن ضعفه؛ لأن ذلك أوجب للتأثير فيه وأكثر فائدة من الدعوة إلى الله بجهل أو على غير بينة

فقه الأولويات في القصص القرآني

إن مقصد الشريعة يبنى على قاعدة معروفة وهي (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) فأولويات أي عمل يجب أن تنطلق من تلك القاعدة ، والقصص القرآني يحمل دروساً عظيمة، وعبر لا تعد ولا تحصى، ومن تلك القصص قصة يوسف ، التي تحمل خصوصية تتعلق بنبي مبتلى منذ طفولته وشبابه، ابتلاء قد يواجه معظم الشباب في زماننا، الحرمان من الأبوين بسبب الغيرة والحسد، فتنة امرأة العزيز والشاب الذي يستعصم بحبل الله، السجن والتمسك بالحق والثبات عليه، ثم فتنة المال والمُلك، ثم التمكين والجلوس على العرش وولاية أمر الناس، وتتجلى في تلك سورة يوسف أولويات تتوافق مع حكم ومقاصد الشريعة فلنتعلم منها.

اختيار أخف الضررين

قد يضطر الداعية للاختيار بين أمرين أحلاهما مر، فعليه هنا أن يختار أخف الضررين إن لم يكن هناك بد من وقوع الضرر ، أخف الضررين بدينه ونفسه ومن حوله، يقول يوسف عليه السلام في خضم أزمته مع امرأة العزيز التي تحاول أن تراوده عن نفسه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]

وفي الطبري يقول: "وَهَذَا الْخَبَر مِنَ اللَّه يَدُلّ عَلَى أَنَّ امْرَأَة الْعَزِيز قَدْ عَاوَدَتْ يُوسُف فِي الْمُرَاوَدَة عَنْ نَفْسه، وَتَوَعَّدَتْهُ بِالسَّجْنِ وَالْحَبْس إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَاخْتَارَ السَّجْن عَلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ عَاوَدَتْهُ وَتَوَعَّدَتْهُ بِذَلِكَ، كَانَ مُحَالًا أَنْ يَقُول: {رَبِّ السِّجْن أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} وَهُوَ لَا يُدْعَى إِلَى شَيْء وَلَا يُخَوَّف بِحَبْسٍ".

ومن هنا وفي ظل الظروف الأمنية القاسية التي يعيشها أبناء الحركة الإسلامية في كل بلاد المسلمين فقد وجب على الشباب أن يراعي تلك الأولويات، أن يختار أخف الأضرار.

وفي هذا قيل: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الخيرين، وشر الشرين " [مجموعة فتاوى ابن تيمية].

ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان في المستفاد: "أقول: على الداعية إذا وجد نفسه أمام هذا الاختيار الصعب، أن لا يتردد في اختيار طاعة الله والتمسك بمقتضيات الدعوة ومتطلبات الإيمان، وأن يهتف بلسانه وقلبه: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].

أولوية الدعوة إلى الله وتوحيده

والاعتقال أو السجن أصبح المصير الحتمي لكل من يحاول أن يرفع لله راية في بلاد المسلمين، وأصبح الاستثناء ألا تجد شابا لم يتعرض له بظلم وقهر!

فترات طويلة تضيع من عمر شبابنا وهم قيد الاعتقال الجبري بغير ذنب سوى أن قالوا ربنا الله!

والإنسان مجبول بطبيعته على الحرية والانطلاق لكي يستطيع أن يبدع ويقوم بدوره في الحياة كما يجب، ففترات السجن هي انقطاع كامل عن مهمته، وحبس عنها، وبما أنها أصبحت واقعاً معاشاً وحقيقة يجب التعامل بمقتضاها، فيجب عدم الاستسلام لها بالصمت والسكون والقلق النفسي والهموم والضيق.

وهذا يوسف عليه السلام الذي حبس ظلماً يستثمر أول فرصة لعرض دعوته على شركاء السجن، ولم يكن هذان الشريكان ليلجآ إليه، إلا حين رأيا من حسن خلقه، وغريب عبادته عليهما، واختلافه عنهما ما دفعهما للجوء إليه حين رأيا رؤية تحتاج للتأويل، وحين عرضا عليه الرؤية كان جوابه المباشر: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].

فهو لم ينس مهمته الأصيلة، مهمة التعريف بالله وتحبيبه إلى خلقه، يوسف المسجون السياسي وسط مساجين جناة بلغة العصر، وهنا تحرك الداعية، في أولويتين:

الأولى/ دعوتهما قبل أن يفسر لهما الرؤى.

والثانية/ نوعية ما دعاهما إليه وهو توحيد الله عز وجل.

واستخدم يوسف عليه السلام أسلوب المقارنة بين التوحيد وتعدد الآلهة ليثير فيهما ملكة العقل والتفكر.

أولوية طلب التصدي للمسؤولية

في وقت المحن والأزمات يعرض الناس عن تحمل المسؤولية خوفا من تبعاتها، أما الداعية فيجب عليه أن يتصدى لها ولا يهرب منها إن لم يجد من هو كفؤٌ لها سواه، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، ومقصد التمكين من خزائن الأرض هو القدرة والعلم والعدل والأمانة، والمسلم حين لا يوجد من يسد مكانه سواه ولو ذلك بالتعامل مع الطغاة شرط عدم معاونتهم على ظلم فإنه يتقدم لصالح الناس .

في وقت المحن والأزمات يعرض الناس عن تحمل المسؤولية خوفا من تبعاتها، أما الداعية فيجب عليه أن يتصدى لها ولا يهرب منها إن لم يجد من هو كفؤٌ لها سواه

وفي القصص القرآني الكثير من تلك الآيات التي تأخذنا إلى أن العمل ليس خيرا وشراً فقط، وإنما الأولوية تكون بين خيرين وبين شر ىين، ومن هذه الآيات في سورة الكهف قصة أصحاب السفينة قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، فكان الخيار بين ترك السفينة معيبة أو يأخذها الملك، فاختار الخضر أخف الضررين.

وهناك أولويات في بعض الأحكام القرآنية، مثل: موضوع تعدد الزوجات على سبيل المثال، فالتعدد يعد في نظر الزوجة الأولى إضرارا، لكنه قد يحل مشكلة مجتمع زاد فيه عدد الإناث عن الذكور بأضعاف، أو مجتمع محارب يقتل فيه الرجال، وهنا درء مفسدة وجود أغلبية المجتمع من النساء بلا زوج يكون مقدماً على مصلحة زوجة واحدة، شرط أن يكون بضوابطه التي وضعها الشرع وهي: الاستطاعة على العدل، والقدرة على الإنفاق.

ولمن أراد أن يستزيد، فليحسن قراءة القرآن ففيه بيان ما نريد، وإذا دققنا النظر في الأمر نجد أن علم الأولويات مرتبط بفقه الواقع ومبني عليه، فإنك إذا أردت أن تعرف أولوية ما يلزم إنساناً فعليك أن تعرف واقعه أولاً كما مر بنا من قبل.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …