تأتي مسألة صناعة العقل الجمعي على رأس الأمور التي هي على أكبر قدر من الأهمية في المجتمعات المتقدمة، ويحرص عليها صناع القرار، وأصحاب الكلمة والرأي في المجتمعات.
وتتضمن هذه العملية، صياغة الأسس الفكرية التي تنطلق منها تصورات الإنسان حول نفسه وحياته، وحول كيفية تعامله مع المسارات المختلفة من حوله، وصولاً إلى المجتمع الكبير.
وتتم عملية بناء الأسس والمنطلقات الفكرية، من خلال منظومة متنوعة من مسارات صناعة المفاهيم وغرس القيم ، تشارك فيها مؤسسات المجتمع المدني، ووسائل التنشئة والتلقين المختلفة، مثل وسائل الإعلام والتعليم، والآداب والفنون، وما اتصل بذلك.
وشكَّلت قيم الأيديولوجية الليبرالية التي ترسَّخت عبر قرون طويلة، المظلة الجامعة بين مختلف المجتمعات والبلدان الغربية، والبلدان التي تسير في فلك الغرب، أو لها ذات الانتماء، مثل أستراليا ونيوزيلندا على سبيل المثال، واللتان تخرجان عن النطاق الجيوسياسي للغرب، ولكنهما غربيتان قيمًا وأفكارًا ونمط حياة.
وبالتالي، شكَّلت هذه القيم -عند توجيهها في مختلف مسارات التنشئة والخطاب العام- حالة من العقل والوجدان الجمعيَّيْن، أي بمعنىً أوضح، توحيد المجتمعات الغربية أو التي تسودها القيم الليبرالية.
وقبل أن يقول أحدٌ إن هذه المجتمعات ليست مُوحَّدة في تفكيرها وقيمها؛ لأن فيها شرائح لا بأس بها من اليمين الشعبوي وأصحاب الأفكار اليسارية والإلحادية... إلخ؛ فإن ذلك مردود عليه؛ لأن هذه التعددية هي في حد ذاتها نتاج لطبيعة أو جوهر الأيديولوجية الليبرالية، والتي تنهض على أساس سُلَّم قيمي يبدأ بالحرية في مختلف صورها، ثم العدالة فالمساواة.
وبالتدقيق والدراسة المُوسَّعة للغة الخطاب السياسي والمجتمعي لليمين الشعبوي مثلاً، سوف نجد أنه لا توجد خلافات على جوهر النظرية الليبرالية، وإنما الخلافات تكمن في قضايا سياسية، ولمصالح أحزاب وقوى بعينها، ولكن ليس على أسس منظومة الأيديولوجية الليبرالية.
وهذا وضع لا نعرفه في بلداننا المسلمة، بالرغم من امتلاكنا شريعة واحدة، ولدينا قبلة واحدة، وكتاب واحد، ويفرض علينا تعلُّمه وتلاوته، مع الصلاة، أن نعرف جميعًا اللغة العربية، ونتقنها، مهما كانت انتماءاتنا القومية، فيما الغرب الذي يتشكل من أمم وأعراق لديها عشرات اللغات والمذاهب الدينية، يقوم على عقل جمعي شبه مُوَحَّد لمجرد أيديولوجية، وبعد قرون قضوها في الصراعات الدينية والمذهبية!
من أهم أسباب الاختلاف في عالمنا الإسلامي، قضية التفكك إلى دول وطنية ذات حدود، وكلٌّ منها له نظام مختلف في طبيعته، وفي أولوياته، وبالتالي، يتبنى سياسات مختلفة إزاء القضايا المعروضة على الأمة، ويُفتَرَض أن يكون للمسلمين موقفًا موحَّدًا منها
وأهم أسباب ذلك في عالمنا الإسلامي، قضية التفكك إلى دول وطنية ذات حدود، وكلٌّ منها له نظام مختلف في طبيعته، وفي أولوياته، وبالتالي، يتبنى سياسات مختلفة إزاء القضايا المعروضة على الأمة، ويُفتَرَض أن يكون للمسلمين موقفًا موحَّدًا منها.
ومن نافل القول في هذا الموضع أن نشير إلى قضية الصراعات والحروب القائمة بين الدول العربية والمسلمة بعضها وبعض؛ فقد خلقت هذه الصراعات الكثير من الحزازات النفسية بين الشعوب، بينما القصة تتعلق بمصالح أنظمة وحكومات.
المأساة الأكبر، هي أننا كمسلمين، بِتْنا –أجيال كاملة منَّا– مُستهلِكين لهذه الأفكار، ومتتبعين لها، محققين نبوءة الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- التي قال فيها: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» [أخرجه البُخاري]، وكل ذلك بداعي الانفتاح والتنوير.
ومن أهم ما يغيب عنَّا في هذا الإطار، حقيقة مهمة، وهي أن النبوءات والرسالات المُنزَّلة من عند الله سبحانه، أو ما يُطلِق عليه العوام مسمى "الديانات السماوية"، هي أهم بؤر التنوير في تاريخ الإنسانية.
لأنها – وآخرها وأتمَّها وأكملها ديننا الحنيف – دعوات إصلاحية من لدُنْ الخالق، وهو أدرى بخلقه، ولكن دعاة الجهل والتضليل وأرباب السياسة والمنافع منعوا النور السماوي من السيحان بين البشر، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ونحن كمسلمين، آخر مَن يجب أن يتساءل، أو أن نُصَاب بالحيرة، فلدينا كل شيء، ومُوضَّح في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة، والتي من أهم مصادرها، سيرة الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - بكيفية تصرفه في المواقف المختلفة، وفي الأمور العامة للدعوة، ولقضية الإصلاح والتغيير، ومختلف القضايا الكُلِّيَّة المطروحة على المسلمين، وعلى الإنسانية بشكل عام.
نحن كمسلمين، آخر مَن يجب أن يتساءل، أو أن نُصَاب بالحيرة، فلدينا كل شيء، ومُوضَّح في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة، والتي من أهم مصادرها، سيرة الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - بكيفية تصرفه في المواقف المختلفة، وفي الأمور العامة للدعوة، ولقضية الإصلاح والتغيير، ومختلف القضايا الكُلِّيَّة المطروحة على المسلمين، وعلى الإنسانية بشكل عام
وتطرح هذه الإشكالية، قضية مهمة، وهي الإصلاح الداخلي، وما يتصل بها في شأن موضوع الإعداد الذاتي، والذي يُعد – وفق المنطق العقلي البسيط – أسبق ومقدَّمًا على المعركة التي تضع لها قوى الإصلاح التي تتبنى النهج الإسلامي، الأولوية الأولى في برنامجها، وهي التدافع ضد الفساد والمفسدين، والاستبداد والمستبدين، وضد عوامل التردي الحضاري بشكل عام.
وذلك لأنه من دون بنية سليمة داخليًّا، سيكون أي جهدٍ في أي اتجاه من اتجاهات التدافع بشكل عام؛ فاشلاً وخاسرًا، وإصلاح الجماعة المسلمة، أولى بهذا الآن.
ولو أردنا استفادة من تجارب المجتمعات الأخرى – وهذا مقبول في حدود الرشادة، وأهم هذه الحدود: ألا يؤثر ذلك على هويتنا، وعلى ثقتنا في انتمائنا الإسلامي – فلماذا لا نأخذ منهم حقيقة مهمة، وهي أن معركة الوعي والعقل الجمعي هي أهم معارك الحضارة!
فمبدئيًّا، الوعي بشكل عام وحده هو الذي يحقق الفهم، والفهم الصحيح هو معيار الحكم السليم على الأمور، وهو الذي يحدد طرائق التعامل الصحيح مع المواقف والأزمات المختلفة، وهو الذي يجعل الصواب صوابًا، ويجعل الخطأ خطأً، وبالتالي، نعرف الفساد من الصلاح، والإفساد من الإصلاح.
الوعي بشكل عام وحده هو الذي يحقق الفهم، والفهم الصحيح هو معيار الحكم السليم على الأمور، وهو الذي يحدد طرائق التعامل الصحيح مع المواقف والأزمات المختلفة، وهو الذي يجعل الصواب صوابًا، ويجعل الخطأ خطأً، وبالتالي، نعرف الفساد من الصلاح، والإفساد من الإصلاح
والأهم من ذلك، نفهم ما يجب علينا القيام به من أدوار، وما نحن عليه من قصور، وبالتالي، فإن الوعي هو صميم وأساس النجاح في معركة التدافع ضد الفساد والخراب الحضاري.
ولكن الوعي الفردي لا يحقق الكثير، وإنما يتحقق الهدف الذي تَفيد منه الأمة من خلال الحِراك الجماعي، وهذا الحِراك الجماعي، في ظل القيود والحدود الموضوعة على تواصل المسلمين بالشكل المطلوب، لم يتحقق سوى من خلال العقل الجمعي؛ فيتحرك كل مسلم حيث هو، بنفس الفكر والأهداف والأولويات.
وعندما يتحقق ذلك سوف يظهر عامل المراكمة وأثر الفعل الجماعي بشكل تلقائي، ولا يمكن نقضه أو هزيمته بسهولة.
وبطبيعة الحال والظرف فإن ذلك ليس بالأمر السهل؛ فمن دونه الكثير من عقبات السياسة والحدود والانتماءات العصبية والقومية الضيقة، ولكن منذ متى كانت المهام العظيمة سهلة؟ فعَبْرَ التاريخ، كانت المهام الأصعب، هي مهام إيقاظ المجتمعات من غفلتها، وإصلاح مُكوِّنها الفكري والعقدي .
وعندما أراد اللهُ تعالى الاختيار من عباده لمهمات النبوات والرسالات، عَمِلَ - سبحانه - على إعدادهم إعدادًا خاصًّا فوق ما منحهم إياه من قدرات في الأصل.
ففي قصة نبي الله موسى - عليه السلام - قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وقال أيضًا في ذات السُّورَة: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] ومن هذه العبارات القرآنية نفهم أمرَيْن. صعوبة المهمة، وأهمية الإعداد.