اتباع الهوى والسقوط نحو الهاوية!

الرئيسية » خواطر تربوية » اتباع الهوى والسقوط نحو الهاوية!
muslim- praying

خلق الله الإنسان وأمده بأسباب بقائه واستمراره في هذا الوجود، غير أنه جل شأنه رضي له شرعة ومنهاجاً يتخذهما معياراً له في كل أموره، ولم يتركه لشهواته فتنزل به لدرك البهيمية ولم ينتزعها منه فيعيش مسيّراً في طاعته دون أن يتكلف عناء مجاهدة نفسه وهواه، فكانت الرسالات السماوية الحبل الموصول لهذا الإنسان في الأرض تمده بكل أسباب السعادة والنجاة وتنتزعه من الحيرة والضلال إن هو أسلم قلبه وعقله لداعي الحق والخير .

وهذا الإنسان البشري يتنازعه جانبان: أحدهما/ قبضة الطين، والآخر/ نفخة الروح، وقد أوجد الله فيه نوازع تميل به لما يحفظ له بقاءه فتجده يميل إلى ما يحفظ به نفسه من المأكل والمشرب والمنكح وما إلى ذلك، ولولا هذا الميل لما أقدم على أي من هذا؛ فالهوى هنا يقصد به: "ميل الطبع إلى ما يلائمه" [ابن الجوزي: ذم الهوى، ص18].
غير أنّ المتتبع لنصوص الشرع الحنيف وأقوال الصالحين يجد الكثير منها يذم الهوى، ويحذر الإنسان من اتباع هوى نفسه وقد تعددت الآيات في ذلك: منها على سبيل المثال قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] أو اتباع هوى الآخرين كقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].

وبناء على ما سبق، فإن الهوى نوعان:

النوع الأول:
هو المقبول كميل الإنسان لأسباب بقائه -كما ورد- ويوضحه ابن الجوزي: "أنه يستجلب للإنسان ما يفيده كما أنّ الغضب يدفع عنه ما يؤذيه" [ابن الجوزي: ذم الهوى، ص18].
وهذا يبقى مقبولاً ما لم يزد عن حده ولم يتجاوز الاعتدال ولم يتخط الإنسان فيه المعقول وفق معيار يستند لأساس متين لم يتجاوز فيه الشرع والعرف.

النوع الثاني:
هو المذموم وهو الميل إلى الباطل والسوء والشهوات، وهو المقصود في الهوى المذموم الذي حذرت منه نصوص الشريعة وأقوال الصالحين.

وقد عرفه العلماء: "ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع " [التعريفات: ج1، ص320]، وعرفه ابن عاشور: "فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل، وشاع الهوى في المرغوب الذميم" [تفسير التحرير والتنوير: ج30، ص92].

فتقديم ما ينشأ في النفس من نقائص محببة لها على داعي الحق والشرع هو الذي يُذم، وينبغي على العاقل أن يجاهده في نفسه حتى يصبح هواه تبعاً لشرعة ربه، وهو ما نص عليه الحديث الشريف الذي ذكره ابن رجب الحنبلي: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به" [جامع العلوم والحكم: ص627].

ولا يكتمل إيمان المؤمن حتى يكون فكره وقلبه وكل شعوره وإحساسه وأفكاره تابعة منقادة لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ما نص عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

ويتميز المؤمن عن غيره بمتابعة أعماله وأقواله لما جاء به النبي الكريم، لا فرق في ذلك بين عمل الجوارح وأعمال القلوب، بل ويذم الله سبحانه وتعالى من أحب ما كرهه الله، أو كره ما أحب الله، إذ يقول تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].

والمؤمن إن أحب فيحب لله وإن كره فيكره لله، وهذه علامة الاتباع الصادق وهو ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" [صحيح البخاري].

وما الفساد الذي يسري في المجتمعات اليوم والدماء التي تغرق بها الأرض من دماء الأبرياء والمظلومين، بل إن التعثر والسقوط الذي يعترض الفرد والمجتمعات إنما منشؤه -إذا تفكر الناظر– هو اتباع الناس للأهواء، واتخاذها آلهة تطاع من دون الله؛ فنشوء المعاصي والبدع ومخالفة أوامر الله هي نتيجة لتقديم هوى النفس على ما يحب الله ورسوله، ويعلق ابن رجب على تقديم الهوى واتباعه قائلا: "جميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع" [جامع العلوم والحكم: ص630].

إن التعثر والسقوط الذي يعترض الفرد والمجتمعات إنما منشؤه -إذا تفكر الناظر– هو اتباع الناس للأهواء، واتخاذها آلهة تطاع من دون الله

فمن يتبع هواه إنما يقدم شهوات نفسه ورغباتها وميولها على مطالب الشرع وأوامره، لذلك لا عجب أن تجد أكثر من موضع في القرآن الكريم والسنة النبوية يحذر من اتباع الهوى وينهى الإنسان من أن يقع في حبائله، ويذم من يتبع هواه مفضلاً إياه على أوامر الشرع الحنيف، إذ يقول تعالى في محكم كتابه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًاۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19]، وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] وقوله سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ} [ص: 26].

أسباب اتباع الهوى:

لاتباع الهوى أسباب تدفع صاحبه لخوض مهالكه وعثراته ومن أهم هذه الأسباب:

1. الجهل وانعدام العلم، لقوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍۖ} [الروم: 29]، وقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119].

2. الكبر والعناد وعدم الخضوع للحق: وما قصة إبليس إلا مثال على اتباع الهوى وتقديمه على أمر الله، إذ يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

وقصة أخرى مجرياتها كانت في بني إسرائيل، ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز مثالاً على من اتبع هواه وأخلد إلى الأرض: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُۚ} [الأعراف: 175، 176]، بل إنّ المتتبع لآيات الذكر الحكيم يجد أمثلة كثيرة على من استكبر واستجاب لداعي الهوى في نفسه.

3. عدم التعود على مخالفة ومجاهدة الهوى منذ الصغر والاسترسال معه وتلبية رغبات النفس وعدم ترويضها.

4. التقصير بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تجاه متبع الهوى وعدم نصحه والأخذ بيده، لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

5. الركون إلى الدنيا وتقديم اللذة العاجلة على اللذة الآجلة: لقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى: 16، 17].

6. الجهل بقدر وجلال وعظمة الله سبحانه وتعالى: فنؤثر هوى العبد المملوك المخلوق على أمر السيد المالك المعبود.

وبناء على ما سبق فإنّ هوى النفس إن تُرك بغير رقابة ولا تهذيب سيورد صاحبه المهالك ، والمؤمن يجب أن يكون على يقظة من أمره، فينظر في أموره كلها، ويجعل الشرع الميزان والمعيار الذي يعرض عليه أموره، فما وافق أمر الله مضى به غير آبه للصوت الهاتف في نفسه، وإنما يقوي داعي الحق على داعي نفسه فما هو إلا مملوك في هذا الكون الشاسع لله، فيتذكر ضعفه وعجزه فيبصر وقتها قدر ربه وعظيم جلاله، فأنّى له أن يقدم هوى العبد المملوك على أمر الرب المالك، وليُعمل فكره في سبب بقاء المشركين على شركهم فما كان ذلك إلا عندما آثروا أهواءهم على ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستكبروا وتمردوا ولم يستجيبوا له عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

ويكفي الهوى مذمة أنه يهوي بصاحبه لدركات الانحطاط من الشرك والضلال فكفى به انحطاطاً وسقوطاً ، في المقابل فإن الجنة وعد من الله جل شأنه لمن خالف هوى نفسه وذلك في محكم كتابه العزيز: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات: 40، 41].

اللهم بفضلك وكرمك اجعل أهواءنا تبعاً لأمرك وشرعة نبيك صلى الله عليه وسلم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …