تعرض علينا هذه الأيام الشاشات والمحطات التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) مجموعة من الحلقات التي تتضمن نتائج بحث ميداني موسَّع أجرته مؤسسة الاستطلاع الأشهر في العالم العربي، وهي مؤسسة الباروميتر العربي، خلال الفترة بين العام 2018م والعام 2019م.
الاستطلاع الذي شمل 25 ألف شخصٍ من 10 دول عربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م (الضفة الغربية وقطاع غزة) تناول عددًا من القضايا، كان من بينها الدين والفساد والهجرة والتوجه الجنسي.
وفي حقيقة الأمر، فإنه من الأهمية الكبرى بمكان الوقوف على نتائج الاستطلاع، في مختلف المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية؛ لأن النتائج تلقي بظلال كثيفة على حقيقة أوضاع مجتمعاتنا العربية وشبابنا المسلم، سيما فيما يتعلق بموضوع العلاقة بين الإنسان والدين.
ونقف هنا عند نتائج الاستطلاع في نقطتَيْن مهمتَيْن، وهما الدين والتديُّن، والهجرة.
في النقطة الأولى/ الاستطلاع كشف عن أن هناك تزايدًا في أعداد العرب - وخصوصًا الشباب - الذين يتفلَّتون من الدين والتديُّن، منذ العام 2013م.
وأشارت الأرقام إلى ارتفاع نسبة الذين يصنِّفون أنفسهم على أنهم غير متدينين من 8% إلى 13%.
وذكر التحقيق أن ثلث التونسيين ورُبع الليبيين يصنِّفون أنفسهم بهذه الصفة (غير متدين) وأن نسبتهم في مصر تضاعفت، بينما تضاعفت نسبة هؤلاء أربع مرات في المغرب.
واللافت هنا أمران: الأول/ أن هذه المجتمعات الأربع، تنشط فيها -ومنذ عقود طويلة- أحزاب ومجموعات إسلامية، كثير منها مصنَّف ضمن إطار التيار الوسطي الصحوي، الثاني/ أن أكبر نسبة زيادة في هذا المجال، كانت بين الشباب دون سن الثلاثين؛ فقد وصلت نسبة غير المتدينين في هذه الشريحة العمرية إلى 18%.
النقطة الأخرى - والمتعلقة بالهجرة/ أظهر الاستطلاع أن نحو نصف عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عامًا (52 بالمائة بالتحديد) يرغبون في الهجرة، بزيادة حوالي 10 بالمائة عن العام 2016م، مًعيدًا أسباب ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية والفساد في الأساس.
أي أن لدينا – وفق هذه الأرقام – مشكلة في دوائر الهوية والانتماء لدى الشباب العربي، في المجالَيْن الديني والوطني.
وبطبيعة الحال فإن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الأنظمة والحكومات، سواء كمسؤولية عامة، باعتبار الدستور والقانون، أو بدور مباشر بسبب سوء الأداء، وغياب قواعد الحَوْكَمَة والحكم الرشيد، لا سيما فيما يتعلق بقواعد احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدمج والمشاركة في الثروة والسلطة.
إلا أننا يجب أن نقف أمام مجموعة من الأسباب الأخرى التي تخص واقع العمل الإسلامي وأداء العاملين فيه.
فلو أننا تجاوزنا حالة مصر؛ حيث وجود أزمة بين الدولة وبين الحركة الإسلامية، وبالتالي فإن هناك تضييقًا بل وحربًا حقيقية على التيار الإسلامي السياسي، ولو تقبَّلنا الأرقام المتعلقة بالهجرة بشكل عام في ظل صعوبة الأوضاع السياسية والاقتصادية؛ فإنه لا بد أن نقف أمام دلالات وجود هذه الأرقام المشار إليها في بلدان يوجد فيها بالفعل أحزاب إسلامية تعمل في المجال السياسي والمجتمعي بشكل جيد، بل إنها شريك حكم كما في حالة تونس والمغرب.
السبب الأساس في جوهر المنطق العام للأمور، يكمن في نقطة غياب أو ضعف الأثر، وبالتالي عدم قدرة الحركات والأحزاب الإسلامية والعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة على تقديم حلولٍ واضحة وفعالة للمشكلات الموجودة.
وهنا ينبغي التأكيد على بعض الأمور للرد على أصوات ترفع دائمًا عبارات ممجوجة، ويرددها الحَفَظَة غير الفاهمين من الأتباع والصف، تم تلقينهم إياها بشكل خاطئ وتزيد من الطين بِلَّة كما يقولون، وفيها: "هل سوف تحمُّلون الإسلاميين مسؤولية كل شيء، واضطراب حركة البحار والمحيطات أيضاً؟"
الأمر ليس هكذا بالضبط طبعًا، وفيما تقدَّم قلنا: إن المشكلة الأساس تقع عن أصحاب المسؤولية، والمنوط بهم معالجة المشكلات وتوفير الاحتياجات، وهم الحكومات والأنظمة، ولكن الذي أدى إلى هذه المشكلة لدى الحركة الإسلامية، أنها هي بالفعل مَن تصدَّى في خطابه، وسعى في حِرَاكه في كل المجالات والاتجاهات.
وهذا كان أحد أوجه النقد داخل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، من جانب رموز حركيين كبار، وقبل ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م أيضاً.
وبعد ثورة يناير، والممانعات التي واجهتها الجماعة وتيار الإسلام السياسي بشكل عام من بعض شرائح المجتمع ومما يعرف بمؤسسات الدولة العميقة، كانت استجابة الإسلاميين خاطئة لتحدي تنفيذ برامج المرحلة وتحقيق شعارات الشارع؛ لأنهم تورطوا أكثر في مسألة تحمل أعباء كل شيء تقريبًا، بما في ذلك نظافة الشوارع، بالرغم من أنها ليست وظيفتهم، ولا يملكون الأدوات الملائمة لها، سواء على مستوى الأفراد أو الإمكانات.
بعد ثورة يناير، والممانعات التي واجهتها الجماعة وتيار الإسلام السياسي بشكل عام من بعض شرائح المجتمع ومما يعرف بمؤسسات الدولة العميقة، كانت استجابة الإسلاميين خاطئة لتحدي تنفيذ برامج المرحلة وتحقيق شعارات الشارع؛ لأنهم تورطوا أكثر في مسألة تحمل أعباء كل شيء تقريبًا
كما أن ذلك خطأ في جذر منطقه؛ فتلك مهام مؤسسات الدولة، وكان الأولى الالتفات إلى نقطة الرقابة والمحاسبة عليها لكل من قصَّر.
ومع تجاوز هذا الأمر لقانون عمراني شديد الأهمية وضعه اللهُ تعالى في خلقه (وهو قانون الاستطاعة) فإن الفشل تحقق، والأسوأ أنه تم تحميله للأصل، وهو الإسلام.
ينقلنا ذلك إلى جانب آخر من المشكلات الداخلية لدى الحركة الإسلامية والعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، وهي قضية توليد حلول من الشريعة للمشكلات المعاصرة.
وهي قضية للأسف، هناك جانب منها جرى تسييسه، وتحمله الدين ذاته أمام معتنقيه، فلأن هناك أزمة أو خلافاً مع الإخوان المسلمين في مصر والأردن مثلاً؛ شُوِّه شعار "الإسلام هو الحل" الذي تبنته الجماعة، وبدلاً من أن ينسب الفشل في القدرة على توليد حلول إلى الإخوان والإسلام السياسي بشكل عام، أُسقِط الفشل –حاشا لله تعالى– على الإسلام والشريعة.
لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا جذر المسألة، وهو العجز عن وضع حلول واضحة وإيجاد بدائل للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وبالذات لدى الشباب، وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان أكثر احتياجًا من مختلف مراحل حياته الأخرى؛ فهي مرحلة عمل وبناء ومراكمة.
ولهذه الإشكالية جذور عديدة، أهمها سطوة مدرسة التعامل الجامد مع النص الشرعي، وهي قضية ليست بالسهلة؛ لأن هذه الرؤية القاصرة في التعامل مع النص الشرعي، هي التي منعت الاجتهاد في إيجاد الحلول الملائمة للمشكلات المعاصرة من الدين، مع أنها الحلول موجودة، أي أن القضية أخطر وأعمق أثرًا من أي شيء آخر.
الرؤية القاصرة في التعامل مع النص الشرعي، هي التي منعت الاجتهاد في إيجاد الحلول الملائمة للمشكلات المعاصرة من الدين
وهو أمر مدهش؛ لأن التاريخ والتراث الإسلاميَّيْن فيهما من النماذج الكثير جدًّا لحُكَّام وعلماء وأئمة، كانوا على أكبر قدر من المرونة في فهم النص الشرعي، وتطويعه لملائمة الواقع ومتطلباته، من دون الخروج عن ضوابط الشريعة، وفق وعي عميق بمسألة السببية والعلل في الأحكام الشرعية.
فنفي العلة والسبب والظرفية في الحكم الشرعي هو جريمة يرتكبها فاعلوها في حق الله تعالى؛ لأن نفي ذلك يعني أن الحكم الذي أنزله الله تعالى خال من الحكمة، وأنه عبثيٌّ -حاشا لله عز وجل- وفي القرآن الكريم أكد اللهُ تعالى على أنه لم يخلق أي شيء بالباطل أو عبثًا، مثلاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وهذا في خلقه، فكيف في أحكامه!
وتتصل هذه القضية كذلك بمسألة صلاحية الدين لكل زمان ومكان؛ لأن تعطيل فهم الحكم الشرعي وتوظيفه لملاءمة المستجدات والتعامل معها يهدم هذا البنيان بالكامل (بنيان الصلاحية الذي هو أصل حكمة تعميم اللهِ تعالى للنصِّ القرآني نفسه).
وهذا يناقض منطق القرآن الكريم نفسه؛ ففي كثير من الآيات نجد الحكم الشرعي مقرونًا بأسباب وظرفيات بعينها، ومتى انتفت هذه الظرفية وهذه الأسباب، لا يُعمل بالحكم الشرعي.
ومن بين ذلك: أحكام المرأة في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]
هنا يتضح لنا أن قضية سُتْرة المرأة لها علّةٌ، وهي وقاية المجتمع من الفتن والفواحش، وليست مجرَّد فرض، بالرغم من أن اللهَ تعالى من حقه وقدرته أن يفرض ما يريد، ولكن شاءت حكمته أن تكون أحكامه كافة لأسباب وعلل وفيها مرونة مراعاة للظرفيات.
ففي الآية عندما انتفت العلَّة، وهي التعفف وصيانة الأخلاق، أُعفيت النساء اللواتي لا تُرجى منهنَّ فتنة، من بعض ضوابط الملبس الشرعي.
وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي توضح ذلك، منها مثلاً قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، هنا وضع اللهُ تعالى - سبحانه - شرطاً للقصاص وهو حفظ الحياة، ولكن لو ترتب على القصاص إزهاق المزيد من الأرواح وسفك الدماء، فلا يُعمل بالقاعدة، ووضع القرآن الكريم البدائل، مثل الدِّيَة، وعفو أولي الدم... وغيرها.
وفي القرآن الكريم كذلك، نجد أن الحكم الشرعي في كثير من الأحيان، ترافقه دعوات واستحسان وتزكية من رب العزة لأمور المروءة ، مثل دعوة أصحاب الحق في حالات الطلاق إلى العفو، بل إن القرآن الكريم وصف ذلك الأمر بأنه الأقرب للتقوى، يقول تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].
وكان عمر بن الخطَّاب - رضي اللهُ عنه - أول من أسس لهذه المدرسة العقلية التي تستجيب تمامًا لهذه الأحوال، عندما عطَّل حد السرقة في عام الرمادة؛ لأنها - ببساطة – قد استجدت ظروف، وانتفت علل تطبيق الحكم الشرعي للسرقة.
ولم نسمع أن الصحابة -رضوان اللهِ تعالى عليهم أجمعين- قد اعترضوا على ذلك، أو اتهموا عمر بأنه يعطل الشريعة أو يهدم الدين، وبأنه عدو الله -كما نسمع الآن- وهم من عاصروا الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- نفسه.
بل إنهم كانوا يراجعونه أيضاً في أقواله وأفعاله بينما هو موجود بينهم ويتلقَّى الوحي، وكان مبعث المراجعة كما فعل الحباب بن المنذر -رضي اللهُ عنه- في مسألة تموضع قوات المسلمين وقت غزوة بدر هو اعتبارات الملاءمة والمصلحة.
وبناء على ذلك الفهم تأسست في الإسلام مدارس فقهية استندت إلى الموازنة بين المصالح المرسلة والمفاسد، ووضعت قاعدة تغيُّر الفتوى بتغيُّر الظرف، مع ثبات الحكم الشرعي ، مثلما فعل كثير من العلماء منهم الشافعي والشاطبي وغيرهم الكثير، والأخير له كتاب من أهم المرجعيات الإسلامية حتى الآن، وهو (الموافقات) الذي يحمل عنوانه الكامل معنىً عظيمًا للغاية في هذا الإطار، وهو: (كتاب الموافقات في بيان مقاصد الكتاب والسُّنَّة، والحكم والمصالح الكلية الكامنة تحت آحاد الأدلة ومفردات التشريع والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة).
إن أهم مهمات العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة هي: الاستجابة للمستجدات، وتوليد حلول من الشريعة الإسلامية لمشكلات الشباب على وجه الخصوص
وفي الأخير، فإن الحديث عن هذا الأمر يطول، وهو بحاجة إلى منظومة تربوية وإعلامية ودعوية كاملة للتعامل مع متطلباته، ولكن تبقى الإشارة إلى أن أهم مهمات العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة هي: الاستجابة للمستجدات، وتوليد حلول من الشريعة الإسلامية لمشكلات الشباب على وجه الخصوص.
ولن يتحقق ذلك إلا من خلال عملية تجديد شامل للفكر الإسلامي، ونظرته للنص، وطرائق تعاطي المسلمين وطليعتهم مع قضايا الأمة، والتي أهمها قضايا الفرد المسلم؛ فإن ينهض البنيان الحضاري بالكامل لآية على أكتاف الفرد الصحيح النشأة والتأسيس.
وبما أن الإنسان أسير احتياجاته - كما شاءت حكمة الله عز وجل - فإن عدم إنتاج خطاب شرعي يستجيب للمشكلات والاحتياجات المعاصرة، وإن النتيجة -لن نقول سوف يحصل؛ لأنها قائمة بالفعل- هي انتشار الظواهر الإلحادية والتفلت من الدين والتديُّن، ولنا أن نسأل الباروميتر العربي عن ذلك كما تقدم.