ليس من الصحيح الاستكانة إلى التصورات السلبية دائمًا، وهي حقيقة موجودة في الدراسات العمرانية، وفي دروس التنمية البشرية أيضاً، فإن الأهم من جلد الذات، هو توصيف الوضع بشكل سليم، ووضع البدائل الملائمة، ثم البدء في المعالجة .
وهو منهج مطلوب بشدة عند دراسة حالة التراجع الحضاري التي تعاني منها الأمة المسلمة في عصرنا الحالي، وفي القلب منها أمة العرب التي شرَّفها اللهُ تعالى باستقبال واحتضان آخر وأعظم وأكمل رسالاته، وهي رسالة الإسلام.
فدراسة هذه الحالة من دون النظر إلى تاريخ العرب والمسلمين الحضاري، وما قامت به الدول الإسلامية المتعاقبة من إنجازات حضارية نفخر بها جميعًا، واعترف بها العالم بأسره، وسجَّلها في مدوناته، في الوقت الذي كانت أوروبا –مهد الحضارة الغربية الحالية– تعيش عصور تخلف وانحطاط وظلام، سوف يقود إلى حالة من اليأس، ولا سيما عند مقارنة حاضرنا بحاضر الغرب المزدهر حاليًا.
وبالتالي، فإن الوقوف على الماضي في هذه الحالة، سوف يجعلنا في وضعية أكثر فهمًا لواقعنا، وهي قاعدة شديدة الأهمية في العلوم الاستشرافية؛ لأن أهم أدوات استشراف المستقبل، هي دراسة الماضي.
وفي الحالة التي نناقشها في هذا الموضع من الحديث، فإن هذه الدراسة التي تدخل في إطار تصنيف الدراسات الدراسات "Retinal studies" أو الـ"Retro studies" تسمح بفهم عوامل التقدم والتراجع الحضاريَيْن، ومن خلال منظومة مقارِنة بين نمطَيْن للتخلف والتأخُّر الحضاري: العرب والمسلمون حاليًا، والغرب في مرحلة ما قبل عصور التنوير، ونمطَيْن للتقدُّم الحضاري والمديني: العرب والمسلمون في الماضي، والغرب حاليًا.
كما أن الدرس المهم للغاية من ذلك، هو أن ندرك سُنَّة التداول. يقول تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَۗ} [آل عمران – 140] والغرض منها، أنْ نفهم أنه ليس لمجرد أن نقول بأنَّا مسلمون سوف نسود العالم، وإنما هناك قوانين حاكمة وضعها ربُّنا سبحانه وتعالى لخلقه، يجب علينا اتباعها والالتزام بها، من أجل العودة إلى السؤدد والقيادة.
ليس لمجرد أن نقول بأنَّا مسلمون سوف نسود العالم، وإنما هناك قوانين حاكمة وضعها ربُّنا سبحانه وتعالى لخلقه، يجب علينا اتباعها والالتزام بها، من أجل العودة إلى السؤدد والقيادة
ولكن ثمَّة ملاحظة مهمة هنا في هذه الآية، وهي أن استيفاء شرط الإيمان يقود جماعة المسلمين إلى التقدم والتطور، يقول تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَۗ}، فالرابط هنا قائم بين سُنَّة التداول، وبين استيفاء المسلمين لشروط الإيمان، وبذل الجهد: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَۗ}.
وأول ملمح من ملامح قضية التراجع الحضاري لدى المسلمين والعرب في قلب الأمة - وهي حقيقة أكدها الحديث النبوي، وأقوال الصحابة الكرَام رضوان الله تعالى عليهم - هي إشكالية فهم ومن ثَمَّ تطبيق المفاهيم الحضارية، وخصوصًا المفاهيم الأساسية، أو ما يُعرَف بالسُّلَّم القيمي، ويشمل ثلاثة مفاهيم أو قيم أساسية، هي: العدالة والمساواة والحرية.
وهي قيم تختلف في ترتيبها وترتيب أولويتها على الأخرى بين النظريات الأساسية التي تحكم العالم في الوقت الراهن، وفق ما اتفقت عليه كتب الفكر السياسي المعاصِر، وهي: الإسلام، والليبرالية، والاشتراكية.
ففي الإسلام تأتي العدالة ثم المساواة ثم الحرية، بينما في الليبرالية، تأتي الحرية ثم العدالة فالمساواة، بينما في الاشتراكية تقف المساواة على رأس الهرم، ثم العدالة، ثم الحرية.
وبطبيعة الحال، هناك قيمة عظمى فوق هذه القيم في الإسلام، وهي قيمة التوحيد، وإقامتها من خلال إنفاذ أحكام الشريعة الإسلامية، ولكن ما دون التوحيد، فتشترك الأيديولوجيات –مجازًا– الثلاث السابقة في هذه القيم، وإن اختلفت في ترتيبات.
في الغرب، ومع اختلاف مكوِّننا القيمي والمفاهيمي، وفي عقيدتنا، عنهم إلا أن لديهم ميزة أهلتهم لتصدُّر المشهد الحضاري العالمي، وهي فهمهم، ومن ثَمَّ كفاءة تطبيقهم للقيم التي يؤمنون ويعيشون بها.
ففي قضية الحرية، وهي من بين أهم الأمور الجدلية التي تشغل بال العاملين في حقل العمل الإسلامي، وساحاتنا الفكرية بشكل عام، عندما نقف أمامها في الغرب نجد أنها خلاف ما نظنه، أو بمعنىً أدق، هي بخلاف تلقينا نحن كعرب ومسلمين، وفق منظومتنا القيمية والأخلاقية، وبما لنا من خلفيات وبيئات محافِظة كذلك.
فالحرية الفردية، وهي قيمة مقدسة تصل إلى مستوى الاعتقاد في الغرب، هي ممارسة منضبطة، وليست منفتحة أو منفلتة كما يتصور البعض، فهي منضبطة بالإطار القانوني، وبضوابط المجتمع القوي القادر على الدفاع عنها.
في الغرب لا يمكنك أن تسير بميكروفون في الشارع، أو تستخدم في بيتك –بيتك يعني مكانك الخاص– مكنسة كهربائية يزيد صوتها على مستوى معين من الديسيبل (وحدة قياس شدة الصوت) وفق قواعد حددتها قوانين الاتحاد الأوروبي صراحةً.
بل إنك –وفق العُرف هناك– بعد الساعة العاشرة مساءً، لا يمكنك بحال أن ترفع صوتك أنت شخصيًّا داخل بيتك؛ كي لا تزعج الجيران. في حينه سوف تتَّهم بعدم الاتزان النفسي!
في الغرب من المستحيل أن تسير في الشارع زاعقًا بسيارتك أو دراجتك البخارية، أو تتجاوز خطوط المشاة، أو حدود السرعة والطريق. هناك يمكنك أن تسبَّ رئيسك، ولكن لا يمكنك أن تسبَّ جارك.
لكن كيف نظن نحن الحرية الفردية؟ كما نرى من فوضى في بيوتنا وشوارعنا. إذًا، نحن لسنا أكثر حرية منهم، بل إننا في الواقع، فوضويون.
هم تقدموا عنَّا؛ لأنهم يفهمون الحرية بمكوناتها كافة، بينما نحن نعتقد أن الحرية هي صنو الفوضى .من بين معالم هذه الإشكالية أيضًا، قضية تجنيبنا العقل بالرغم من أن القرآن الكريم ذاته، دعا إلى إعماله في أهم قضية من قضايا الدنيا، وهي قضية معرفة وجود الخالق عز وجل، وتأكيد وحدة ربوبيته، ووحدة ألوهيته، وأحقيته بالأسماء والصفات العليَّة.
والخطأ هنا هو أننا جنَّبنا العقل لصالح الغيبيات، واعتقدنا أن ذلك من الإيمان، فأدى ذلك إلى سيادة نوعيات من عقليات الخرافة والدروشة، وهي صنو التخلف الذي نهى عنه الإسلام؛ لأن الإسلام هو أكبر ثورة عمران وبناء عرفها التاريخ من دون مبالغات، ومن دون تحيُّزات باعتبار أننا مسلمون ونفخر بذلك.
والدليل على ذلك، أننا عندما كُنَّا نحكِّم الدين بشكل صحيح أقمنا أعظم الحضارات التي عرفتها الإنسانية، وأكثرها عدلاً . شعراء وفلاسفة الغرب يتغنُّون بحضارة الأندلس، ويرسمون حدائقها الغنَّاء وعمرانها الباذخ في لوحاتهم، ويدرِّسون علومها في جامعاتهم إلى الآن.
وهذا بالمنطق يعني أسبقية الحضارة الإسلامية بدرجات، وخصوصًا في مجالات العمران الأهم، وهي التعايش والبناء، وهو أمرٌ لم يكن ليحدث، لولا أن طبقت الحضارة الإسلامية أول قيمة في سُلَّم القيم الذي أشرنا إليه، وهي العدالة.
وبينما تخلينا نحن عن هذه العقلية أقام الغرب حضارته على العقل والمنطق، هناك تجد الاتساق مع الذات. فمثلا الجريمة والانحرافات لها قواعدها المنطقية المنظمة لها.
فعندما عَمِل الشاعر الفرنسي آرثور رانبو في تجارة العبيد، ترك الشعر. هكذا ببساطة؛ لأن الشعر كممارسة إنسانية لا يتفق في جوهره الأخلاقي والقيمي مع تجارة الرقيق.
لكن لدينا في مجتمعاتنا هناك المتدِّين، أو – بمعنىً أدق – هناك الذي يزعُم أنه مُتَديِّن، ويمارس أبشع ألوان الانحرافات الأخلاقية. هذا ليس لأنه شرير، ولكن لأن هناك خللاً كبيرًا في مفاهيمه وتصوراته للأمور. هناك التديُّن/ أو الانحراف/ أو الإلحاد، هو منظومة، لا يجب أن تقوم بأمور تتناقض معها.
بل إنه مثلا في مذاهب شاذة مثل المذهب الأبيقوري، وهو مذهب فلسفي وثني في جوهره العقيدي، يُعلي من شأن اللذة الحسية، ويمنح أتباعه الحرية المطلقة في ممارسة ألعن ما يمكن أن نتصوره كمسلمين، وتتصوره الفطرة السليمة، من ملذات حسِّية. في محافل هذا المذهب الذي ظهر في اليونان القديمة لم نجد لوحات تشير إلى وجود راهبة أو ناسك في محافل يمارس أصحابها شهواتهم بحرية كاملة.
وعندما فعل رهبان بيندكتبويرن الألمان ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي طردتهم الكنيسة، وقامت معهم بما يُعرَف في الديانة المسيحية بالحرمان الكنسي.
وفي الولايات المتحدة الآن نجد آلاف المذاهب والكنائس التي تمزج بين المسيحية وديانات وعقائد وثنية. هذه لا تعترف بها الكنائس الكبرى المعتمدة، الكاثوليكية أو البروتستانتية أو الإنجيلية.
وفي الأخير، فإننا بحاجة إلى برامج تربوية وإعلامية، ومنهجية تلقين وتنشئة، تضع في أذهان المسلمين، أطفالهم وعوامهم، بل ونخبتهم المهتزة، جوهر المفاهيم التي انبنت عليها حضارة الإسلام ذات يوم. أن نفهم معنى العدالة، ومعنى المساواة، ومعنى الحرية، وأن نطبق تلك القيم بشكلها السليم، لا وفق هوانا، وفي إطار منظومة متجانسة ومتكاملة، وإلا أصبحنا مسوخًا.
إننا بحاجة إلى برامج تربوية وإعلامية، ومنهجية تلقين وتنشئة، تضع في أذهان المسلمين، أطفالهم وعوامهم، بل ونخبتهم المهتزة، جوهر المفاهيم التي انبنت عليها حضارة الإسلام ذات يوم
كما أننا لا يجب أن ننبهر بالتقدم الحضاري الحالي في الغرب. هم لديهم انحرافات عميقة عن المنهج الحضاري السليم، ويحملون بذور فنائهم، ولا يجب أن نضع العلم المادي كمظهر وحيد للتقدُّم الحضاري. هذا كذلك خلل مفاهيمي لدينا كعرب ومسلمين ينبغي لنا معالجته؛ لأنه يحدِث أخطاء لو حاولنا الإصلاح. فالقصة ليست قصة مراكز بحثية واكتشافات طبية وفضائية. الأمر أعمق من ذلك؛ فهو يرتبط بالتشريع والواقع المجتمعي، والأمور التأسيسية أو الأصولية.
كما أننا لو وقفنا أمام التقدُّم العلمي فحسب فسوف نخاف منهم. سوف ينشأ لدينا خوفٌ مرضي منهم؛ لأن الجانب القبيح من العلم، منحهم سطوة في السماء، وسطوة في السلاح، وسطوة في عوامل قوة الأمة بشكل عام.
فلا بد – إذًا – مِن تفكيك النموذج الحضاري الغربي؛ للأخذ بجوانبه الإيجابية، وتفادي ما فيه من عوارض وعوامل نقص وضعف.