ذاكِرَة الفِلسطينيّ تاريخٌ مُكثّفٌ مُشِّع مُثقل بالخيبات، لكِنّه عامِرٌ بالثّبات، يَعُجُّ بآلاف الصُّور التّي تتوارَدُ تترى، وطنٌ مسلوبٌ، عاصِمَةٌ مُغتَصَبة ومُنتَزعة، وعَدوٌ يُعَربِد تيهاً في البِلاد، صُوَرٌ الشُّهداء وَالَأسرى، و الصّغار الذين ليسوا صِغاراً، مِن المصير المُغَيّب، والغد المَجهول.
- ذاكِرته استِثنائِيّة وفولاذية تَمتص وتَدّخِر في قَعرِها وَتوَثّق الأحداث،الذّاكِرة تَحقِد مِن بشاعة الصّور التّي تُخَبِئها، وثِقَل المَشاهِد التّي تحملها، وهَذَيان الصّور التي انطبعت على جُدرانها،الذّاكِرة وَطَنٌ يَحلم به الفِلسطيني في فكره وخياله البعيد حين يَشطَح، يراه وَطناً كبقيّة الأَوطان لا تعتريه تَجزِئة، ولا تُفَتِتَه انقسامات، يراه مُلتَئِماً متعافياً، وقد بَرُء من جراحِه التّي أثقَلت جسده، يَتنَفَس مِلء رِئتيه حُرّية وعِزة.
ويرى نفسه يَنشَأ طبيعياً في مراحِله العُمريّة، دون أن يعيش هَمّاً أكبر منه، دون أن تشِطره كَلِمة لاجيء، أتُراه يَلجأ الإنسان في وطنه وإلى وطنه، سيريالية المشهد عجائبية جدّاً ولا يُحِسُّ بِحُرقَتِها إلاه...
- يحلم أن يَتَنَقّل إلى أي البلاد يريد، في الوَقت الذّي يشاء دون أَن يُؤرِقه جواز سفره (الفلسطيني) هذه الوثيقة التي قد طُبِعَت بشيفرة لا تُفَكُّ رموزِها أبداً، أو كأن تَعويذة شريرة قد قُرِأت عليها ولا أحدٌ يَعلَم كيف السّبيل إلى فَكّها.
يراه يُخَطِط لِمستَقبَلِه، ويُحافِظ على ذِكرياته في بيته القَديم الذي وُلِدَ وإخوتِه فيه، يحفظُه عن ظَهر قَلب، هُناك الزّاوية التي كان يحتمي بها من بطش أُمّه حين كانت تُعاقِبه على خَطَأ قد ارتكبه، أو قد خالف القَوانين والمراسيم المَنزِلِيّة.
وعلى هذا الحائِط كانت تستِند أُمّه وهي تَسهَرُ ليلاً لأنّ أخاه قد أُصيب بالحُمّى، وعلى تلك الأَريكة جلسوا جميعاً يُوَدّعون أباهم ساعة سَفِره لأداء فريضة العُمرة، وعلى عتبة الدّار كم شهدت عتبة الدّار من الذّكريات واللّحظات؟
لقد كان يجلس وَإخوتِه يَنتظِرون عَودَة أبيهم مِنَ السُّوق وهو مُحَمّلٌ بالأكياس، لقد وَعَدَهُم أن يَجلِب لهم العَوّامة والحَلب، وكانت أُمّه تُسَرّح شعر أُختِه بالزّيت في ساعات الصَّباحِ المُشمِسة، و أُختُه وبنات الجيران يَلعَبنَ الحجلة سَوِيّاً بعد نهاية الدّوام المَدرَسِيّ كلَّ يِوم، وَكم تَحَلّق هو وإخوَتِه في انتظار جَدّتهم يوم الخَميس مِن كُلّ أُسبوع لِتجلِس ويَستَمِعون لِقِصصها وحكاياها التّي لا تُمَلّ أبداً، لم يَنسَ هالة النُّور والبَركة التّي كانت تُحيطُها، لقد كانت تَجلِسُ أُمّه وجاراتِها يتجاذَبن أطراف الحَديث، وعلى عتبة الدّار ذاتَها كان يَلتقي والِدَه وأصدقائه لِيَشربوا شاي العَصرِيّة كُلّ يوم...
تِلك كانت طُقوس بيته القديم التّي يَذكُرُها جيّداً ، وكَأنّ ذاكِراته قد رَسَت عليها، لكِنّ الاعداء يَنسِفون البيوت بِالذّكريات التّي عشّشت في أَركانِها، ليمحوا رائِحتها التي تُخَدّرُ الجَسَد وَتُسكِرَ الرّوح.
إنّهم يُحاربون الذّكرى والذّاكِرة والوجود، لكن هيهات أن يتحقق لهم ذلك، فبيوتنا وإن رحلت اجسادنا عنها، فهي في قلوبنا باقية.