ذكر ابن حزم في رسائلهِ القصة العظيمة التالية: يقول: "ناظرتُ رجلاً من أصحابنا في مسألةٍ فعلوته فيها؛ لِبُكُوْءٍ (عيبٍ) كان في لسانه، وانفصل المجلسُ على أنني ظاهرٌ، فلما أتيت منزلي حَاكَ في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب، ووجدت برهانًا صحيحًا يُبيِّن بُطلان قولي وصحةَ قولِ خصمي.
كان معي أحدُ أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرّفته بذلك، ثم رآني قد علّمتُ المكان من الكتاب، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان، وإعلامه بأنه المُحِق وأنني كنتُ المُبْطِل، وأنني راجع إلى قوله.
فهجم عليه من ذلك أمرٌ مبهِت، وقال لي: أو تسمح نفسك بهذا؟
فقلتُ له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخّرته إلى غد"
ثم علّق – ابن حزم - عليه قائلاً: "واعلم أن مثل هذا الفعل يُكسِبك أجمل الذِّكر، مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يَعدِله، ولا يكن غرضك أن تُوهم نفسك أنك غالب، أو تُوهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحُكمك أنك غالب، وأنت في الحقيقة مغلوب، فتكون خسيسًا وضيعًا جدًا، وسخيفًا البتة، وساقط الهمة" [رسائل ابن حزم: ٤ / ٣٣٧].
من منّا لم يرغب –بعد قراءة القصة - بالتصفيق الشديد لهذه الشخصية النبيلة، المتوازنة، والمنصفة؟ وقد يتراجع عن خطأ كان فعله، وينوي بينه وبين نفسه أن يعزز ثقافة الاعتذار في نفسه!
ملاحظة تجعلك توازن نظرتك إلى ثقافة الاعتذار
ثقافة الاعتذار مرتبطة بالإنصاف، النبل، احترام الذات، المروءة، تحقيق الرضى النفسي لكلا الطرفين... وغيرها من المعاني النبيلة، إلا أنها محدودة بضوابط إن تخطَّتها فقدت قيمتها وضاعت أهدافها ؛ لأن الاعتذار يجب أن يرتبط بأسباب منطقية، وإلا فالإفراط فيه كالتفريط وربما أكثر.تخيّل أن تعتذر طوال الوقت، تعطس في منتصف اجتماع فتعتذر، تصطدم بالخطأ مع أحد المارة فتعتذر، تنسى موعداً فتعتذر، يسكبُ أحدهم قهوته لأنه لم يرك فتعتذر، يتعرقل شاب بقدمك الممدودة فتعتذر –وكلها تصرفات صحيحة بالمناسبة وإن كانت تتطلب بعض التأمل.
توقف عن الشعور بالذنب تجاه كل شيء وكل أحد!
لأنك ستجد نفسك -لاحقاً- تعتذر عن أشياء بدهية، فتعتذر من موظف؛ لكي يقدم تقاريره ويؤدي واجباته، وتعتذر من عملائك؛ لكي يحافظوا على النظام والدور، وتعتذر من أخيك، لأنك تحتاج استخدام أغراضه، وتعتذر من الزملاء؛ لكي تدلي برأيك.
ثم تكتشف أن استمرارك بالاعتذار على أي شيء وفي أي ظرف يؤثر سلباً عليك وعلى محيطك، فيلغي شخصيتك، ويقوّض سلطتك، ويفسد حياتك المهنية بالتدريج ، ومن هنا فإن الاعتذار يكون قوة حقيقية إذا تلا فعلاً خاطئاً، لكنه سيكون نقطة ضعف في العمل والعلاقات إذا كان قسرياً.
الاعتذار يكون قوة حقيقية إذا تلا فعلاً خاطئاً، لكنه سيكون نقطة ضعف في العمل والعلاقات إذا كان قسرياً
كيف يكون الاعتذار قسرياً؟
تقول عالمة الأعصاب تارا سوارت: "إن الأشخاص الذين يفرطون في الاعتذار يكون الاتهام بالخطأ، والخوف المستمر من العقاب –غالباً– سمة سائدةً في طفولتهم "!
وقد أجريت دراسة متخصصة في جامعة واترلو –كندا- أثبتت أن النساء هن الأكثر اعتذاراً؛ لأن لديهن نظرة مختلفة إلى ما هو مسيئ فعلاً، وينتبهن لتلك التفاصيل الصغيرة أكثر من الرجال.
وعليه قدمت استراتيجيات تدريبية للمرأة –وللرجل أيضاً– لاستعادة قوة الشخصية، والتخلص من عادة الاعتذار غير المنطقي، خصوصاً عند من يجد نفسه يعتذر قسرياً لأي سبب كان، ويفقد ثقة المحيطين وقدرته على إدارة أمور حياته.
ثلاث استراتيجيات تجعل ثقافة الاعتذار أجمل وأليق:
1. التنبه والوعي الذاتي
كن أكثر وعياً بنفسك وتصرفاتك، مارس الأمر بانتباه أكثر، راجع رسائل البريد والحوارات المكتوبة، احسب عدد المرات التي تقول فيها: "آسف"، "عذراً" أو "أعتذر" واستمر على ذلك الحال لمدة أسبوع كامل، ستفاجأ من عدد المرات التي تعتذر فيها خلال العمل والحياة عموما.
بعد ذلك حدد أسباب تكرار الاعتذار؛ لكي تصلح الأمر بوعي.
لقد ابتكر المتخصصون برامج وتطبيقات تقنن هذه الممارسات التي يؤذي استمرارها شخصيتك ويؤثر عليها سلباً.
2. استخدام مفردات مغايرة
لكي نكون منصفين، إذا تأخرت فترة طويلة في تسليم مشروع أو تقرير وجب الاعتذار للمدير بالطبع، ولكن نحن نتحدث هنا عن المواقف التي لا يكون الاعتذار فيها ضرورياً.
كلما أصبحت أكثر وعياً بنفسك ستستطيع استبعاد الكلمات والجمل المكتظة بعبارات الاعتذار، واستبدالها بأخرى ملائمة للظرف والحالة أكثر.
كلما أصبحت أكثر وعياً بنفسك ستستطيع استبعاد الكلمات والجمل المكتظة بعبارات الاعتذار، واستبدالها بأخرى ملائمة للظرف والحالة أكثر
فبدلا من أن تكون كل الجمل التعبيرية لديك: آسف لن أستطيع، عذراً هل بإمكانك فعل كذا، أعتذر لقد تأخرت... إلخ. يمكنك أن تقول مثلا:
- شكراً؛ لأنك انتظرتني!
- لسوء الحظ، لن أستطيع القدوم اليوم.
- لو سمحت، هل يمكنك إرسال التقرير إليّ؟
3. تعمّد الثقة بالنفس
أظن أنك الآن تعتقد -مثلي تماماً– أن الإفراط في الاعتذار لا يمنح انطباعاً بالقوة، وإنّما يقلل من فرص تألقك وحضورك .
ولكي تقضي على ذلك، كن مباشراً أكثر خلال العمل -تحديداً– وتعمّد التعبير عن نفسك بثقة بالنفس شرط أن تملكها فعلياً، و ألّا تكون ثقتك مفرطة في النفس فتحل مشكلة وتقع في مشكلة أكبر!
كن مباشراً أكثر وتعمّد التعبير عن نفسك بثقة بالنفس شرط أن تملكها، وألّا تكون ثقة مفرطة فنحل مشكلة ونقع في مشكلة أكبر
وهنا أنصحك بأن تكون واضحاً، صادقاً، وصريحاً أكثر في التحدث عن نفسك وقدراتك، فتتمكن من عرض مهاراتك؛ ليزداد تأثيرك وحضورك تلقائيا.
طوّر آدم غالينسكي -الأستاذ في كلية كولومبيا للأعمال– تقنية لإعمال العقل وتحضيره ليكون واعياً أكثر بينما تعمل أنت على تقديم نفسك بثقة أكبر، (الفكرة الأساسية في تقنية غالينسكي هي التدوين والكتابة عن موقف سابق شعرت خلاله بالقوة، الفخر، والسعادة الغامرة) وقد أثبتت هذه التقنية نجاحاً فريداً؛ ففي 60% من الحالات التي استخدمت تلك التقنية وصفهم زميل واحد -على الأقل- بأنهم قادة الفريق.
لا أدعوك لحذف الاعتذار وكلمة "آسف" من قاموسك، لكن تعلّم الفرق بين الاستئذان والاعتذار والطلب بأدب، لا تترك الأمر للصدفة وابدأ بتغيير عادة الاعتذار المفرط، لا تعتذر عن الأشياء الخارجة عن إرادتك؛ لأن لا حاجة لاعتذارك أولاً، وثانياً لكي تستعيد قوة تأثيرك ولا تلغي شخصيتك .
لا تتوقف عن المحاولة قبل أن تبلغ النجاح، وتذكر خلال محاولاتك أن نجاحك في تغيير هذه العادة هو باب لنجاحك في تغيير جميع عاداتك السلبية لاحقاً.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الجدال والمراء/ محمد صالح المنجد، ط1. سلسلة أعمال القلوب، ج9. السعودية: مجموعة زاد للنشر، 2009م
- https://www.forbes.com/sites/carolinecastrillon/2019/07/14/how-women-can-stop-apologizing-and-take-their-power-back/#7f97eeed4ce6