لو سألت مسلمًا: "هل تريد رضا الله؟" لكان الجواب المتوقع -غالبًا- هو: "بالتأكيد" والكثيرون يخططون بصدق للجانب الروحاني وللإيمان في حيواتهم، ومع ذلك تظل صلة المسلم بربه أكثر الصلات ذبذبة وأقل الجوانب تقدما مقارنة بغيرها.
وقد شرحنا في مقالات سابقة خطر مبدأ عدّ الدين جانباً من جوانب الحياة، بالتوازي مع الجوانب الأخرى المالية والمهنية والعلمية... إلخ. وفي هذا المقال، نلفت النظر إلى توجه الدعوة المعاصرة للتركيز على صدق الإرادة، وصدق الرغبة، متأثرة في ذلك بقدر غير هين من دروس التنمية البشرية التي تعظم نفسية حضور الرغبة والإرادة فيما يعمل المرء في الحياة لينجح فيه (وهما مرادفان منمّقان أو تلبيسان ناعمان للمِزاج والهوى).
وحقيقة الأمر أن الإرادة -بمعنى الرغبة والميل- وحدها لا تؤدي إلى شيء، ولا يمكنك أن تصدق بها على هيئة مُجرّدة، بل تكاد تنقلب بممارستها النظرية إلى تمنيات وأحلام يقظة، فلا بد من عمل، بل إن العمل في كثير من الأحيان هو الذي يربي الإرادة ويرسخها ، وذكر الغزالي في إحياء علوم الدين: "وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم، وحال، وعمل" فالحال (أي نية القلب وصدق الوجدان) طرف وسط بين علم العقل وعمل الجوارح، فلا بد من الكل معا.
حقيقة الأمر أن الإرادة - بمعنى الرغبة والميل - وحدها لا تؤدي إلى شيء، ولا يمكنك أن تصدق بها على هيئة مُجرّدة، بل تكاد تنقلب بممارستها النظرية إلى تمنيات وأحلام يقظة
وأما أن مادة خلق الإنسان ضعف، وأنه بحاجة لتسنيد وتشجيع وتحفيز دائم، ففيه كذلك لبس من أثر الثقافات المستوردة والهجينة، ذلك أن الإقرار بحقيقة الضعف الكامن في خلقتنا لا يعني اتخاذه حجة للتخاذل، أو مبررا للانغماس في القهر النفسي والعجز الوجداني؛ إذ أن في تركيبنا كذلك تطلعاً للمعالي وتشوقاً للجد في معاملة الحياة، الذي منه بذرة القدرة على التكليف، فإننا لم نكلف على الرغم من ضعفنا بل وفاقاً له، فالخلقة من الخالق والتكليف من الرب الذي خلق، لذلك لا الضعف مانع صاحبه من أخذ حياته بقوة، ولا أخذ الحياة بقوة مانع صاحبه من الانزلاق لما لا بد لابن آدم أن يذوق من ضعف بدني ووجداني وحزن وألم وانجراف وراء الهوى، فإنما هي أحوال وأطوار النفوس في الحياة، وكل حول وكل طور له عبودية وقته.
وأهم ما ينبغي أن يستحضره كل فرد في نفسه، أن مسؤولية استنهاض نفسه من رقدتها، وزحزحتها من إخلادها، ودفعها أو جرجرتها بصبر ودأب من قاع الاختناق لسعة التنفس، كل هذا مسؤولية كل فرد على نفسه وفي نفسه وبنفسه، نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر نعم، لكن التواصي جهة، والمثابرة على ما نتواصى به والاستمرار عليه ولو بأدنى قدر ولو في أحلك الأوقات النفسية جهة أخرى، والجهتان مختلفتان.
ونحن لا نحب أن نقر بذلك الاختلاف بين الجهتين، ونتكوّر في رَحِم الضعف مفضلين ظلمته، على وجع مخاض النور وميلاد القوة، فنظل دائماً معلقين بأطواق النجاة الخارجية، منتظرين الصحبة الصالحة أو الصديق القوي أو الشخصية الملهمة، فإن لم نجد، أو وجدنا حينا ثم فقدناهم حينا، نلومهم على تركنا لضعفنا، ونحقد عليهم استغناءهم عنا بقوتهم.
ووالله ما منا إلا ضعيف، ووالله ما القوة إلا بالله!
نظل دائما معلقين بأطواق النجاة الخارجية، منتظرين الصحبة الصالحة أو الصديق القوي أو الشخصية الملهمة
هاتان الحقيقتان اللتان نخطئ دائماً تقديرهما حق قدرهما، وهاتان الحقيقتان اللتان بهما يتفاوت مدى قوة الناس وصلابتهم، ويتفاوت مدى الحضيض الذين يمكن أن ينجرف إليه كل واحد في نفسه، فيستنهض نفسه منه أو يخلد إليه حتى يُقبض على ذلك.
فإن الاستسلام المتخاذل للضعف مُتعب موهِن، لكن التعاطف مع ضعف الغير ومد سواعد الانتشال والاتكاء كذلك مُتعب مرهق ؛ لأنه يضيف حملاً لصاحب الساعد فوق حمل نفسه الأساسي؛ فبينما يزداد الأول وهنا بعدم بذله جهداً صادقاً لأجل نفسه، يزداد الآخر إرهاقا بما يستنزف من طاقة تصير بدداً لا مدداً، والمشكلة كلها من الأصل تكمن في أننا إما أن نطرق الأبواب الخاطئة، أو نطرق الطرق الخاطئ، أو نرفض الدخول بعد فتح الباب.
لذلك فخلاصة النصح في شأن معضلة العزم والإرادة:
- إياك أن تعوّل على مخلوق أبداً مهما يكن حاله.
- إياك أن تعفي نفسك من مسؤولية نفسك مهما يكن حالك.
- لا تَبِع نفسك بنفسك، فإن عاقبة ذلك على نفسك.
- إياك أن تجعل ربك آخر ملاذك، أو تصادر أحكامه بأحكامك:
o منّ الله عليك بالإسلام فلا تكفره.
o أدخلك في حِمى الديانة بفضله فلا تُخرِج نفسك منها بحماقتك.
o باب ربك مفتوح فلا تغلقه.
o حياتك مستمرة فلا توقفها.
o وموتك آتٍ فلا تتعجله.