في الحلقة الأولى من هذا الموضوع تحدثنا بفضل الله تعالى عن بعض الضوابط الحاكمة التي يجب أن نقر بها قبل الحديث عن حل لمن أرهقتهم التضحيات ويبحثون عن مخرج لهم من أزمتهم.
وفي الحلقة الثانية قمنا بفضل الله تعالى بمناقشة أهم النقاط التي يرددها من أرهقتهم التضحيات ويسوقونها كدليل على شرعية مطلبهم ووجاهته.
وفي الحلقة الثالثة ذكَّرنا بطبيعة الطريق وبمردود هذه التضحيات وأثرها على الإبقاء على أصالة منهج الحق للأجيال القادمة، ورفع رايته خفاقة دون نكوص ولا فرار ولا تغيير ولا تبديل. وكذلك حذرنا من الوقوع في شرَك أهل الباطل، ومن مغبة الاطمئنان لمعسول كلامهم وبريق وعودهم.
أحبتي في الله:
- لنعلم جميعاً أن أهل الحق الآن في دورة تدريبية شاقة ومُكثفة ليتعلمو كيف تدار الدول، ولنعلم جميعاً أن لكل نصر ضريبة فلابد أن تدفع الضريبة كاملة وعن طِيب خاطر حتى يأذن الله تعالى بالنصر، فالنصر مرهون بما نقدمه من تضحيات لأجله، ولنعلم جميعاً أن كل بذل مُخلص مقبول بإذن الله، ومأجور، وأن سلعة الله غالية، ولا ينالها إلى من أدى حقها.
* عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ أُمَّ حارثةَ أتَتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وقد هَلَكَ حارثةُ يَومَ بَدرٍ، أصابَه سَهمٌ غَرْبٌ- فقالت: يا رسولَ اللهِ، قد عَلِمتَ مَوقِعَ حارثةَ مِن قَلْبي، فإنْ كان في الجَنَّةِ لم أَبْكِ عليه، وإلَّا فسوف تَرى ما أَصنَعُ، فقال لها: هَبِلْتِ؟! أَوَجَنَّةٌ واحدةٌ هي؟ إنَّها جِنانٌ كثيرةٌ، وإنَّه في الفِردَوسِ الأعلى" (صحيح المسند).
- ولنعلم جميعاً أننا بفضل الله أقوياء ولو كنا غير ذلك ما تكالبت علينا كل قوى الشر في الأرض ومارسوا كل الضغوط من أجل أن نوافق على الجلوس معهم على مائدة واحدة للتفاوض.
- ولنعلم أننا بثباتنا على الحق نشكل شوكة في حلق عدونا تنغص عيشه وتقض مضجعه وتؤرق نومه، قال تعالى: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" (سورة النساء).
أحبتي في الله:
- يقول الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله: "القوي مها كان قوياً فإن فيه نقطة ضعف، والضعيف مهما كان ضعيفاً فإن فيه نقطة قوة، فإذا التقت نقطة القوة عند الضعيف بنقطة الضعف عند القوي انتصر الحق على الباطل".
إن هذا يُوجب علينا أن نؤمن بقضيتنا وغايتنا، وأن نحفظ إيماننا، وأن نحافظ على أخوتنا، وأن نصبر على مشقات طريقنا، وألا نجعل للشيطان مكاناً بيننا، لأن صاحب الحق لابد له من قضية سامية تشغله، وغاية نبيلة تدفعه، وأخوة صادقة تدعمه، وزاد من التقوى يُقويه، فيُقبل ولا يُحجم، ويكر ولا يفر، ويؤثر ولا يتأثر. إن هذه هي عدتنا الأساسية التي يفتقر إليها خصمنا والتي يحاربنا من أجلها، لأنه وإن بدى منتفشاً قوياً إلا أن انتفاشه يحمل في طياته خواء روحي، وصراع نفسي، وشتات ذهني، وفحش ومنكرات، وفساد وموبقات، وسيؤتى من هذا الجانب بإذن الله تعالى فحاشاه سبحانه أن يمكن لمن كانت هذه صفاته، وحاشاه سبحانه أن يتخلى عن عباده الصالحين.
أحبتي في الله:
لنكن جميعاً على يقين أن خصمنا يحمل بين جنبيه عوامل هلاكه فهو ما وجد باباً للخير إلا حاربه وأغلقه، وما وجد باباً للشر والفساد والرذيلة بل والخيانة إلا شجعه وأيده وتبناه، وهذا كفيل بإذن الله تعالى أن يؤتي الله بنيانه من القواعد، وأن يخر عليه السقف من فوقه، ولنوقن أن الله تعالى يُملي للظالم حتى يستنفذ رصيده من الرحمة، وحينها ينزع ستره عنه، ويفضحه أمام أنصاره ومؤيديه والمخدوعين فيه ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر فلا يكون له رحماء ولا شافعين.
أحبتي في الله:
إن مهمتنا الأولى الآن والتي هي من أصل ديننا وصلب دعوتنا هي أن نبذل قصارى جهدنا في أن نبصر غيرنا بحقيقة عدونا وبحقيقة الصراع بيننا وبينه وأنه ليس صراعاً سياسياً بقدر ما هو صراع عقائدي، حتى ينفض الناس من حول الباطل وأهله ويلفظونهم لفظ النواة، وحتى نفكك هذا الدرع البشري الذي يتحصن به الباطل ويعتبره مصدر قوته وسبب وجوده.
أحبتي في الله:
- إن نجاحنا في هذه المهمة سيُنهك خصمنا وسيفقده توازنه وصوابه بل وسيُعريه ويُفقده مصداقيته أمام المخدوعين فيه فيصبح كالفأر المذعور الذي يتسبب بذعره في هلاك نفسه.
أحبتي في الله:
- اعلموا أنه إذا فاض الكيل، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المؤمنون بالله الظنونا، حينها سيرفرف النصر فوق الرؤوس وأن فرج الله تعالى آت لا محالة وما يعلم جنود ربك إلا هو.
- إلى أهلينا وأهل من هم تحت سطوة المعانة دعوني أزف إليكم بعض ما يشرح الصدور لِما ينتظركم من الأجر جزاء إيمانكم وصبركم وثباتكم وحسن ظنكم بربكم.
أهلينا وأحبتنا: لنعلم أن رحمة الله تعالى التي أدركت أنبياء الله عليهم السلام جميعاً لن يحجبها الله تعالى عن كل من سار على دربهم إلى يوم القيامة، ورحمة الله التي ربط بها على قلب أم موسى لن يحجبها الله تعالى عن قلوب كل الأمهات، واليقين بالله الذي ملأ الله تعالى به قلب يعقوب لن يحجبه عن قلوب كل الآباء، وهذه هي ثقتنا بالله التي لا يجب أن تتزعزع ولا أن تغيب عن أذهاننا.
*جاء في البداية والنهاية: روى ابن عساكر عن عكرمة, أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته: يا بُني إني أريد أن أجيء إليك فأدع الله أن ينجيني من حر النار حولك.. فقال: نعم, فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار, فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت.
أهلينا وأحبتنا: بشراكم بين يدي ربكم بما تقدمون الآن من صبر واحتساب وجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم بل وبفلذات أكبادكم فكل ذلك يجدد إيمانكم بل ويحفظه من الفساد والنقصان.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن لقيَ اللهَ بغيرِ أثَرٍ من جِهادٍ؛ لقيَ اللهَ وفيه ثُلمةٌ " ( حسنه الألباني ). ومعنى ثلمة: شرخ أو نقصان.
أهلينا وأحبتنا: إن شقاء الدنيا كله سيُنسى عند أول غمسة في الجنة بل سيود أهل العافية الذين لم يبتليهم الله تعالى في الدنيا أن لو كانت جلودَهم قد قطعت بالمناشير في الدُّنيا.
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا، مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ " (صحيح مسلم).
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " يودُّ أَهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يعطى أَهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بالمقاريضِ" (صحيح الترمذي).
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ " (صحيح الترمذي).
أهلينا وأحبتنا: لا يجب أن تنسينا مرارة الأحداث وقسوتها أن من أركان الإيمان "الإيمان بالقدر خيره وشره".
- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: "... ولو كانَ لكَ مثلُ أحدٍ ذهبًا أو مثلُ جبلِ أحدٍ ذهبًا تنفقُهُ في سبيلِ اللَّهِ ما قَبِلَهُ منكَ حتَّى تؤمِنَ بالقدرِ كلِّهِ فتعلمَ أنَّ ما أصابكَ لم يكن ليخطئَكَ وما أخطأكَ لم يكن ليصيبَكَ وأنَّكَ إن متَّ على غيرِ هذا دخلتَ النَّارَ" (صحيح ابن ماجه).
أهلينا وأحبتنا: إنكم بتحملكم للأذى وبانتظاركم للفرج في رباط فلا تفسدوا ثواب رباطكم بسخط ولا جزع ولا تشكي بألفاظ تحجب الثواب أو تنقصه.
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ تعالَى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضيَ فله الرضا، ومن سخطَ فله السُّخْطُ " (صحيح الترغيب).
- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "رباطُ يومٍ في سبيلِ اللَّهِ خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سواهُ منَ المَنازلِ" (صحيح النسائي).
أهلينا وأحبتنا: إن أي صاحب مصيبة أو بلوى يظن أن مصيبته هي أم المصائب ولكنه لو اطلع على مصيبة غيره لهانت مصيبته بل ورضي بها، فالأم التي تزور ابنها في محبسه من خلف الأسلاك، هناك غيرها من الأمهات تزور ابنها في العناية المركزة من خلف الزجاج.
- قال القاضي شريح رحمه الله إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها، أربع مرات: "إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني للاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني" .
* وختاماً :
- أقولها من باب التحدث بنعمة الله تعالى أن كاتب هذه السطور يعيش معاناتكم من أول لحظة وليس ممن حيزت لهم الدنيا بحذافيرها ولا معشار ذلك، وإنما أذكر ذلك حتى لا يدور بذهن أحدكم أن كاتب هذه السطور يتحدث من فراغ أو أنه لم يجرب ألم الفقد والحرمان أو أنه لم يتجرع مرارة المعاناة بكل ما تحمله كل هذه الكلمة من معنى.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم وتب علينا انك انت التواب الرحيم