حينما تدعو الإسلاميين إلى تعظيم شأن الأخوة الإيمانية بدلاً من التعصب الحزبي والمذهبي، وتوحيد جهودهم في مواجهة عدوّهم الذي يرميهم جميعاً عن قوس واحدة، وخلق إطار للتعاون بينهم على المشترك؛ يطلع علينا صوت نشاز يؤكد أن ما سبق عبثٌ محض، محتجاً باقتتال الصحابة فيما بينهم على دحضه وإبطاله.
ولا أدري! أي جرأة هذه التي تدفع مسلماً إلى رد النصوص الداعية لما ذكرنا آنفاً؛ بأفعالٍ أصحابُها غير معصومين، مع تقديرنا لفضلهم ومكانتهم. ومع ذلك؛ فإن هذا الاقتتال كانت غايته وأد فتنة فرّقت كلمة المسلمين، وقسمت دولتهم إلى دولتين. وفي الطرف الآخر؛ فإن الصحابة الذين اعتزلوا هذا الاقتتال، ونهى بعضهم عن بيع السلاح لإحدى الطائفتين؛ قصدوا بذلك الحفاظ على وحدة الأمة أيضاً.. فكيف تُضرَب هذه الوحدة بمثل هذه الحجة الواهنة المتهالكة؟! وهل يقوى الاستشهاد بالقدَرِ على صرْعِ الحق أو إخفاء نوره؟!
أضف إلى ما سبق؛ حينما يأمر الشرع الأمةَ كلَّها بفعلٍ ما؛ هل يمكن أن يكون هذا الفعل غير مقدور عليه؟! هل يريد الله تعالى أن يعجِّز الأمة؟! صحيحٌ أن الأمة قد وصلت من الضعف إلى ما يحول بينها وبين إقامة بعض الواجبات، لكن هذا لا يعفيها من بذل الجهد والسعي الدؤوب لإزالة العوائق التي حالت دون إقامتها.
ألا ترى أن إيجاد الدولة المسلمة التي تكون الحاكمية فيها لله وحده ضربٌ من المستحيل، وخصوصاً مع تآمر الشرق والغرب على إجهاض كل تجربة تقترب - ولو يسيراً، ويسيراً جداً - من تحقيق هذا الأمر، وافتقار الإسلاميين إلى القوة التي تمكنهم من تحقيق حلمهم والمحافظة عليه؟!
ألا ترى أن إيجاد الدولة المسلمة التي تكون الحاكمية فيها لله وحده ضربٌ من المستحيل، وخصوصاً مع تآمر الشرق والغرب على إجهاض كل تجربة تقترب - ولو يسيراً، ويسيراً جداً - من تحقيق هذا الأمر، وافتقار الإسلاميين إلى القوة التي تمكنهم من تحقيق حلمهم والمحافظة عليه؟!
هل يعني ذلك أن تخور هممنا، وتنطفئ عزائمنا، ونقعد في قارعة الطريق نندب حظنا، ونبكي ضياع حلمنا، ونلوذ بالراحة والدعة، بدلاً من الأخذ بالأسباب، والسعي بقدر المستطاع لإصلاح ما يمكن إصلاحه من أجل إنفاذ أمر الله تعالى بإقامة دينه وإفراده بالحاكمية في الأرض؟!
نعود إلى موضوعنا الرئيس، فالاستشهاد بأخطاء السابقين ليس مقتصراً على ما ذكرنا، فهناك من يقسو بالعبارة، وينتقي أقذع الكلمات، وأقبح الأوصاف، ليوجهها إلى مخالفيه، مستشهداً بلسان ابن حزم السليط، أو بعبارات الجرح الشديدة التي كان يطلقها بعض علماء الرجال، ومن ذلك مثلاً ما جاء في "سير أعلام النبلاء" (11/58) من قول الحاكم: "سمعت أبا عبدالله محمد بن يعقوب الحافظ يذكر فضل ابن المديني وتقدّمه. فقيل له: قد تكلم فيه عمرو بن علي (هو الفلاس الحافظ الحجة)، فقال: والله لو وجدتُ قوة لخرجتُ إلى البصرة؛ فبُلْتُ على قبر عمرو!
ولا أدري ما الداعي لهذا الكلام القاسي حقاً؟.. ولو كنتُ أجرؤ على رفع رأسي أمام هذا الإمام؛ لقلتُ له: وفّر يا شيخنا قوتك ووقتك، فبولُك على قبر الفلاس لن يضره بشيء!
أليس الأحرى بمن يستشهد بمثل هذه العبارات؛ أن يلتزم بقوله تعالى: {وقولوا للناس حُسناً} [البقرة: 83]، وقوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]؟! أليس الأولى به أن يصغي سمعه لما روي مرفوعاً وموقوفاً: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء" (رواه الترمذي وغيره)؟!
أدري أن بعض "المتورعين" سيحرك لسانه الآن قائلاً: "وهل ترمي هؤلاء العلماء الذين تلفظوا بهذه الألفاظ بالفحش والبذاءة؟"، فأقول: إن تنزيه الإسلام وأخلاقه من أن تُنسَبَ إليه هذه البذاءة؛ أولى من تسويغ زلات العلماء السابقين الذين هم بشرٌ يخطؤون ويصيبون، ونرجو أن تضيع سيئاتهم في بحر حسناتهم.. فأربعْ يا هذا على نفسك!
إن تنزيه الإسلام وأخلاقه من أن تُنسَبَ إليه هذه البذاءة؛ أولى من تسويغ زلات العلماء السابقين الذين هم بشرٌ يخطؤون ويصيبون، ونرجو أن تضيع سيئاتهم في بحر حسناتهم
ومن أغرب ما يُستشهد به من أقوال السابقين لتسويغ رفض منهج الموازنات في تقييم الأشخاص والجماعات، ووجوب ذكر السيئات للمخالف وكتم حسناته؛ كلمةٌ تُنسب إلى رافع بن أشرس يقول فيها: "من عقوبة المبتدع أن لا تُذكر محاسنه"!!
وبهذا القول يُرد قوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام: 152]، وقوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8]، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]، وغيرها من الأدلة التي تحض على العدل الذي يناقضه إغفال الحسنات مطلقاً، وتسليط الضوء على السيئات دون سواها.
ولسائل أن يسأل: من هو رافع بن أشرس هذا؟ وما قيمة كلامه العلمية؟ وهل هو من الأئمة المشهورين بالعلم؟
إن أحسن ما يُقال في رافع بن أشرس هذا أنه مجهول الحال.. ووالله لو كان فقيه زمانه، ووحيد عصره، وفريد دهره؛ لما ساغ أن نقدم قوله بحالٍ على الكتاب والسنة.. هل ذهبت عقولنا حتى نفعل ذلك؟
وهكذا.. كثيرة هي المسائل التي يُجعل كلام السابقين فيها مداراً للحق، حتى ولو خالف النص الصريح، بحجة أن "الخير في اتباع من سلف"!
وليس غرضنا أن ننتقص من علم وتقوى علمائنا الذين سبقونا بالإيمان والعلم والعمل، فهم رموز هذه الأمة الذين بنوا حضارتها، وأسسوا ميراثها العلمي على مر السنين.. ولكنهم بشر؛ تعتمل نفوسهم دواعي النفس البشرية المتعددة، ويعتريهم ما يعتري الآدميين من الزلل والمعصية، أو الهوى والتعصب.. وما نبرئ أنفسنا.