الإنسان بين العناية الربانية في التدبير والمزاجية البشرية في التنفيذ

الرئيسية » خواطر تربوية » الإنسان بين العناية الربانية في التدبير والمزاجية البشرية في التنفيذ
rsz_muslim-man-prays-

تتعدد وتتنوع الوسائل والوظائف في سبيل تحقيق الغاية التي من أجلها خُلق الإنسان، ومهما اختلفت أدوار ومراحل هذا المخلوق الذي كرمه الله وتعددت مسؤولياته ووظائفه، إلا أنها لا تخرجه عن وظيفته الأساسية، وهي العبودية لله، ولا ينفك عنها في أي حال من أحواله، غير أنّه من الآفات التي ابتُلي بها الإنسان أنه في لحظة ما ينسى أنه مخلوق وعبد لسيده ومولاه، فتصرفاته وأنفاسه وحركاته وسكناته إنما هي ملك للذي وهبه الحياة ابتداءً وأنه مأمور في استخدامها وتصريفها في المساحة التي أُذن له بالسعي فيها وفق ما يرضى عنه مولاه.

وفي غمرة نسيان الإنسان أنه مخلوق لله قد أقامه وهيأه في وظيفته أو دوره أو حالته التي هو عليها، تجد الإنسان يستصغر دوره الحالي الذي هو عليه ليتطلع لدور آخر قد يكون أكبر مساحة أو أعظم أثراً ليدلي بدلوه في سبيل خدمة دينه وأمته، ويكون الإنسان في هذه اللحظة مدفوعاً بأمرين:

الأول/ جيشان وعنفوان عاطفيان، فيُخيّل إليه أنّ الدور الذي أنيط به في هذا الوقت غير كاف ليخدم دينه بشكل أعظم.

الثاني/ حب الأعمال التي تسلط عليها الأضواء ولها قاعدة عريضة من الشهرة بين الناس، فتراه كتلة متقدة من النشاط أمام الجموع، وسرعان ما يذوي ذبولاً في الأعمال التي بينه وبين ربه في السر بعيداً عن سطوع الأضواء.

وما سبق كثير منا يعاني الصراع والتخبط فيه، والعامل الأول ناشئ عن الجهل بحقيقة العبودية التي خلقنا الله بها، وعلاجه أن يفقه الإنسان مفهوم العبودية وأنها قد تتحقق في صغار الأمور فلا فرق فيها بين عظيم الأمور وصغارها، فكم من متقلد مستخلف في وظيفة عظمى ضيّع نفسه وضيع الأمانة التي أسندت إليه؛ فقط لأنه غفل عن حقيقة العبودية.

على الإنسان أن يفقه مفهوم العبودية وأنها قد تتحقق في صغار الأمور فلا فرق فيها بين عظيم الأمور وصغارها

في الوقت الذي تجد فيه عامل النظافة قد حقق وترجم مفهوم العبودية في عمله الذي أوكل به، فكان حقًا عبداً لله بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

والعامل الثاني علاجه أن يراجع الإنسان البواعث التي تعتمل في نفسه عند قيامه في أي عمل أُسند إليه، فإن نشط في الأعمال والوظائف التي تسند إليه جهراً وخمل في الأخرى، أو تكاسل عنها فقد يكون ثمة خلل في نيته وإخلاصه، عليه أن يسارع لعلاج الأمر قبل أن يستفحل خطره فيحبط عمله فينطبق عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].

وقريباً مما سبق جاءت الحكمة التاسعة عشرة من الحِكم العطائية لتصف حال كثير منا، وتحذر من غياب الحكمة الربانية والمشيئة الإلهية في ذلك، إذ أن صاحب الحِكم يقول: "لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك دون إخراج".

فجاءت هذه الحكمة والتي تعبر عن سوء فهم الإنسان مراد ربه، فيتخبط في السبل ويحمل نفسه من الأعباء ما قد لا يطيق، ظنا منه بأنه في ذلك يرضي الله، ولو أبصر لوجد أن امتثاله لأمر الله فيما هو متاح بين يديه يكفيه مشقة ما تكبد أولاً، وثانياً يكون بامتثاله لأمر الله، وإن خالف هوى ومزاج نفسه -وهو الأولى والأوجب- يكون قد حصّل الأجر من صاحب الأجر، فالأجر يُستوفى بالامتثال والتسليم في العمل أي كان لا بسبب العمل نفسه .

ولتوضيح هذه الحكمة، خذ مثالاً بسيطاً في مجيء رجل ينظر لظواهر الأمور كما ينظر البعض منا فيعلق نظره بعظيمها، فيأتي التوجيه النبوي ليصحح موازين الأمور ويضبط معاييرها، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيُّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد" [صحيح البخاري].

لقد ردّه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لخدمة أبويه وقدم ذلك على الجهاد في سبيل الله على الرغم من مكانة الجهاد وما للمجاهد من أجر في سبيل الله.

وهنا تأتي القضية التي يجب على المسلم أن يفقهها في دينه ويفهم مراد ربّه على حقيقته، فكم من مسلم يستصغر أمراً ما -كمثال بر الوالدين السابق في مقابل الجهاد في سبيل الله- بل وقد ينظر أحدنا بحسرة لناشط مثابر في الدعوة إلى الله، وهو قد أقعدته عن ذلك حاجة عائلته وأسرته والسعي عليهم عن كثير من الأمور التي ينشط بها غيره، ومصدر الخلل في هذا الفهم يؤول لعدة أسباب، ذكرها البوطي في شرحه للحكمة العطائية السابقة:

1. أن صاحب الرغبة يُخيّل إليه أن المثوبة منوطة آلياً بسبب مادي، فما لم يتحقق هذا المناط لن تأتي المثوبة أو الأجر، غير أن الحقيقة غير ذلك، فالمؤجر والمثيب في كل الأحوال وعلى كل الأمور هو الله -عز وجل- وهو الذي أناط إكرامه ومثوبته بما قد أناطهما به من أنشطة وأعمال، وأن الله –تعالى- لا يحتاج إلى من يسخره لأداء عمل ذي فائدة دينية أو اجتماعية؛ فالموفق والمعين هو الله، ولكنه -عز وجل- قضى لطفاً منه ورحمة أن يثيب عباده بعضهم ببعض.

2. أن المصالح التي تدور أحكام الشريعة الإسلامية عليها كثيرة ومتنوعة، ليس فيها ما هو أجلّ وأبعث على المثوبة والأجر من الآخر إن صفا القصد وخلصت النية لله عز وجل.

3. النية، إذ أن نية المرء هي مصدر المثوبة إن صلحت وخلصت من الشوائب وتوجهت بصاحبها إلى مقصد وغاية واحدة وهي مرضاة الله تعالى.

وبناء على هذا فإن المسلم إذا فهم أن حياته من مولده وحتى مماته هي لله فقط، مجردة عن أدنى حظ -دنيوي أو نفسي- له منها، عندئذ لن يتعلق بمظاهر الأعمال وصورها ولن تشغله طبيعتها عن حقيقتها، إذ لا فرق عنده إذا ما كانت على مسرح تسلط عليها كل الأضواء وترقبها كل العيون، أم كانت في بقعة مجهولة مخفية لا يسمع ولا يعلم بها أحد، ما دام المقصود هو الواحد الأحد فهو المرجو في كل أعمالنا ورضاه مقصدنا.

إن المسلم إذا فهم أن حياته من مولده وحتى مماته هي لله فقط، مجردة عن أدنى حظ -دنيوي أو نفسي- له منها، عندئذ لن يتعلق بمظاهر الأعمال وصورها ولن تشغله طبيعتها عن حقيقتها

وقتها سيفهم المسلم المراد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم إلا وهو قائم على ثغرة من ثُغر الإسلام، فمن استطاع ألا يؤتى الإسلام من ثغرته فليفعل" [كتاب السنة للمروزي].

فالمسلم في هذه الأرض إنما هو تمام كما الجندي الذي أقامه أميره على ثغرة في أرض المعركة لا يبارحها حتى يأتيه الأمر بالبقاء أو الانتقال -ولله المثل الأعلى- إذ جعل كل منا على ثغرة عليه أن يمتثل لأمر مولاه، ولا يمد عينه لثغرة أخيه، وإنما يجتهد فيما بين يديه فيظهر جلده ويحسن في عمله فيقبل الله منه ويضاعف له الأجر، أو ينتقل به وقتما شاء كيفما شاء إلى ثغرة أخرى.

احذر أن تضيّع ما أوكل إليك وأنت تحلم وتصبو لمهمة أخرى، فلا التي بين يديك أتقنت، ولا إلى التي ابتغيت وصلت ، ارض بما قسم لك ربك واثبت وامتثل وابذل غاية جدك وعملك، فلن يضيع عمل عامل وإن كان مثقال ذرة لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} [آل عمران: 195].

وتعهد نيتك في كل أمورك، فلا تدري كم من عمل لا يلقى له بال خلصت نية صاحبه فأكرمه الله تعالى مقاماً علياً، وكم من عمل يحسبه المرء هيناً أورثه ذلاً وخسراناً.

استحضر قول نبيك المبعوث رحمة للعالمين: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" [صحيح البخاري]، عالج نيتك في حركتك وسكونك وقف على باب مولاك فيكرمك بكرمه ورحمته وفضله لا باستحقاقك فما أمرك إلا بين الكاف والنون.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …