اعتدنا على النعم لدرجة أننا إذا سُئلنا عن حالنا قُلنا: لا جديد! فهل استشعرنا تجدد العافية وبقاء النعم؟
لذا أحسنوا استضافة نعم الله في بيوتكم، فأكثر البيوت مؤسسة على تذكر ما ينقصها، لا على الاحتفاء بما حصلت عليه، وتأكدوا أن شكر الله يبني البيوت على الصخور، وبالتذمر وكثرة الشكوى تكون البيوت على رمالٍ ناعمة.
تشرق الشمس كل يوم لكن ليس هناك من ينظر إلى إشراقها، وإلى بديع خلقه -سبحانه وتعالى- وكيف ينقشع الظلام أمام الشمس، كما أنها تغرب كل يوم، فلا ينظر إليها إلاّ الصائم؛ كي يُفطِر!
فما الذي جعل عبادة الشكر والتفكر بالنعم عبادة مغتربة بين الكثير من المسلمين؟ وما هي ثمرات هذه العبادة؟ وكيف يكون شكر العبد لربه؟
التفكر طاعة وعبادة
من ناحيته، قال الدكتور زياد مقداد أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الإسلامية بغزة: "إن التفكر في النعم وغيرها من المخلوقات والآيات وكل ما حولنا هو أمر محمود عموماً بل طاعة وعبادة لله، وقد حض القرآن على التفكر في أكثر من موضع"، مستشهداً بالآيات الكريمة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، والآية: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].

وأشار إلى أن: "هناك الكثير من الآيات تستحق منا الوقوف عليها، لكننا نمر عليها مرور الكرام بدون تدبر، ونعرض عن التأمل فيها مع أن التدبر قد يكون له من الآثار الإيجابية والمقاصد التي تعود بالنفع الكثير ومع ذلك أصبح التفكر في النعم أمراً لا يشغل بال الكثيرين".
ما الذي جعل التفكر عبادة مغتربة؟
وبشأن الأسباب التي جعلت التفكر في النعم عبادة مغتربة عند الكثير من المسلمين، ذكر مقداد أنّ الاعتياد على رؤية النعم ودوامِها -سواء من النعم الخاصة كالرزق والصحة والأولاد، أو النعم العامة وهي كل المخلوقات التي سخرها الله لنا؛ لتعود بالخدمة على الإنسان إذا ما أحسن استغلالها- جعل الكثير من المسلمين لا يقدرون حقيقة النعم وعظمة المُنعم.
وتابع: "كما أن ضعف الإيمان يقلل التدبر، وعلى العكس تماماً فصاحب الإيمان القوي تجده كثير التدبر في نعم الله ".
وأضاف مقداد: "إن الجهل بالمقاصد العظيمة المترتبة على التدبر والتفكر بالنعم هو سبب آخر، وعندما يجهل الانسان النتائج المترتبة على هذه العبادة فإنه لا يعطيها حقها"
ثمرات التفكر
وأشار إلى أن التفكر والتدبر يزيد الإيمان بعظمة الله وقدرته اللامحدودة في قلب المسلم، كما يؤثر إيجابياً على النفس من خلال زيادة الطاعة ورقّة القلب والتزام الجوارح بالأحكام أكثر، ويستطيع الإنسان أن يقف على حقيقة نفسه الضعيفة الفقيرة المحتاجة إلى الله، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
وبين أن التفكر له مردوده الإيجابي وهو عدم التكبر عندما تعرف أنك ضعيف وستموت، وأن شوكة واحدة يمكن أن تتسبب بإعاقة لك أو نفاذ لروحك، وهذا الأمر يضعك في محاسبة مستمرة مع نفسك كيلا تتفرعن وليصبح سلوكك سلوكاً متزناً وصالحاً.
واستدل مقداد بقول الإمام ابن القيم، حين يصف التفكُّر وعظيم شرفه: "تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة"
كيف يكون شكر العبد لربه؟
ومن صور شكر العبد لربه، لفت مقداد أنّه يكون عبر الالتزام بفرائض الله فلا أقل من أن يقوم العبد بأدائها بأفضل صورة مقابل النعم التي منحها الله إياها، وألا يبتر المسلم نعم الله، وأن يحافظ عليها ولا يعرضها للمهالك والضياع، فلا يعقل أن تأكل ما يضرك وعليك أن تحافظ على صحتك وحياتك ولذلك حرم الله الانتحار؛ لأن من يفعلها يعبر عن سخطه عن الله الذي أنعم عليه بالحياة.
واسترسل: "كما يجب أن ينفق المسلم رزقه بالحلال ودون إسراف، مضيفاً أن من نعم الله نعمة الإخوة في الله تحبهم ويحبونك، لذا كان مطلوباً منك أن تديم الوصال وأسباب الود، وأن تحافظ على الصحبة الصالحة تزورهم وتنصحهم وتمد يد العون لهم "، مشدداً على أن أعظم مظهرٍ هو الإيمان بالله وتوحيده، وأجحد إنسان هو من لا يُقدر نعم الله وهو الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا يشكره.
نصائح
وقال: "إنّ من أسوأ ما يكون ما نراه اليوم من بعض الأُسر وأصحاب الدخل العالي الذين يلقون ما تبقى من الطعام والشراب في القمامة، أو أن يكون عنده سيارة حديثة أو هاتف محمول فتجده يبيعه بثمنٍ بخس ليشتري الأحدث برغم عدم حاجته للتطبيقات الإضافية الموجودة فيه، وهذا سبب من أسباب زوال النعم ونذير شؤم".
وختم مقداد حديثه بالقول: "قبل أن تكثر الشكوى تذكر أنك تسمع وترى وتمشي وغيرك يتمنى ذلك، قد تحصل على راتب لا يغطي الكماليات لكن تذكر أن غيرك لا يجده، انظر إلى ما دونك؛ لكي تستشعر نعم الله، اذهب إلى المستشفيات وانظر إلى من يدفع الملايين كي يصح، فالإنسان مهما افتقد من الأشياء تبقى نعم الله تغمره"
الشكر والتفكر يُقيّدان النعم لتبقى مُتلازمة

من جهته، قال سالم سلامة (الرئيس السابق لرابطة علماء فلسطين، والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني): "إنّ النعم التي أولانا الله إياها كثيرة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]؛ فالنعم كثيرة من أول حمل المرأة بالمولود إلى ولادته إلى وفاته، والوفاة نعمة أيضاً؛ لأنه لو لم تكن هناك وفاة لتمنيناها".
وأضاف أنه حين يصحو الإنسان من نومه يُفترض أن يرفع يديه إلى مولاه قائلاً: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور؛ فقد كُنّا شبه موتى وأحيانا الله -سبحانه وتعالى- وهذه نعمة لا يشعر بها كثير من الناس، فهم يظنون أنهم ناموا وقاموا وهذا شيء طبيعي، لكنها نعمة تحتاج إلى شكر وإن الشكر والتفكر يُقيدان هذه النعم لتبقى متلازمة مع الإنسان.
وأردف قائلاً: "أما الكفر بالنعم هو إيذان بزوالها ، وإن للنعم نفرات كنفرات الإبل إذا أدبرت أنّى تعود؛ فالنعم والتفكر بها أكبر عبادة من العبادات التي أمرنا الله أن نتفكر بها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].
كيف يكون التفكر؟
وأوضح سلامة أنّ المقصود بقوله تعالى: قياماً (واقفون بأعمالهم وعلى ما أولاهم به سبحانه)، وقعوداً (وهم في أعمالهم ومصانعهم ومكاتبهم ومجالسهم)، وعلى جنوبهم (ولو كانوا نياماً أو مضطجعين، لا بد أن يتفكروا في نعم الله التي لا تحصى).
وأشار سلامة إلى أنه لو نظر أحدنا إلى أصابع يده لوجد منها الطويل والمتوسط والقصير، ومن أكبر النعم أن يتفكر الإنسان بهذه الخلقة؛ ليرى أنه إذا ما أغمض يده لأصبحت كأسنان المشط وإذا انفردت كان لكل واحد منها عمل يختلف عن الآخر، ولننظر إلى الأظفار، لماذا جُعِل الظفر في خلف اليد وليس في باطنها، التفكر في نعمة واحدة هو تفكر في ملكوت الله وفيما خلق في السماوات والأرض، وهو يحتاج إلى عقل ولُبٍّ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
وأكد على أن التفكر في آية واحدة قد يجلب لك الخير ويجعلك في طاعة الله ويفتح أمامك أبواباً ومغاليق، فالتفكر عبادة والدعاء مخُّ العبادة، وإذا أردنا أن تبقى النعم فلنلتزم الشكر : {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
مواقف السلف الصالح
وحول موقف السلف الصالح من التفكر بالنعم، ذكر سلامة أن الإمام الشافعي -رحمه الله- زار تلميذه الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- ذات يوم في داره، وكان للإمام أحمد ابنة صالحة تقوم الليل وتصوم النهار وتحب أخبار الصالحين، وتود أن ترى الشافعي؛ لتعظيم أبيها له. فلما زارهم الشافعي فرحت البنت بذلك –طمعاً في أن ترى أفعاله وتسمع مقاله- وبعدما تناول طعام العشاء قام الإمام أحمد هو وابنته وزوجته إلى الصلاة، والإمام الشافعي مستلقٍ على ظهره، والبنت ترقبه إلى الفجر، وفي الصباح قالت بنت الإمام أحمد لأبيها: يا أبتاه، أهذا هو الشافعي الذي كنت تحدثني عنه؟ قال: نعم يا ابنتي، فقالت: سمعتك تعظم الشافعي وما رأيت له هذه الليلة لا صلاة ولا ذكراٍ ولا وِرْداً؟ وعندما دخل الغرفة لم يقم ليصلي قيام الليل، وعندما صلّى بنا الفجر صلى من غير أن يتوضأ!
فلما طلع النهار وجلسَا للحديث ذكر الإمام أحمد لضيفه الإمام الشافعي ما لاحظته ابنته، فقال الإمام الشافعي رحمه الله: "يا أبا محمد أما أنني لم أقم الليل؛ فلأنني عندما وضعت رأسي لأنام تفكرت في آية واحدة ففتح الله عليّ بسبعين مسألة من علوم الفقه رتبتها في منافع المسلمين، فحال التفكير بها بيني وبين قيام الليل، وأما أنني صليت بكم الفجر بغير وضوء، فوالله ما نامت عيني لكي أجدد الوضوء، لقد بقيت طوال الليل يقظاناً، فصليت بكم الفجر بوضوء العشاء"، ثم ودّعه ومضى.
فقال الإمام أحمد لابنته: هذا الذي عمله الشافعي الليلة وهو نائم (أي مستلقٍ) أفضل مما عملته وأنا قائم؛ فعمله كان للأمة.
كيف أشكره؟
وبين أن شكر العبد لربه على النعم بأن يستخدمها فيما أمره الله وفي طاعته، وألا يستخدمها فيما يعود عليه أو على غيره في الإنسانية إلاّ بالخير ، "أعطاك عينين وحذرك أن تتلصص بهما وتتتبع عورات الناس وتنظر إلى الأشياء المحرمة، لكن أباح لك أن تتفكر بهاتين العينين وبالرؤية وكيفية التمييز بين الألوان والخضار والفواكه والتمتع بمنظر الحيوانات والطيور، أما إذا استخدمتها في التلصص وتتبع العورات، وفي أشياء حرمها الله تعالى يوشك الله سبحانه أن يُفقِدك إياها أو يحاسبك عليها وعندها لا ينفع الندم".
ونوه سلامة إلى أنّ "المؤمن يرى نعم الله في المصيبة التي تصيبه أيضاً؛ لأنّها تُقربه إلى الله وتُرشده إلى شكره وحمده، ولذلك يجب على الإنسان ألاّ ينظر إلى المصيبة على أنّها أُم المعارك بل الأصل أن ينظر لها على أنّها معراجٌ إلى الجنة؛ فالمسلم يأخذ الأجر بمجرد وقوع المصيبة، فكيف إن أُلهِم الشكر والصبر والتفكر".